حازم رعد
إن تصحيح طريقة العيش وطريقة التفكير يحتاج إلى قوة قلب وإلى شجاعة كبيرتين من جهة، وكذلك أن هذه العملية تحتاج إلى فهم ومعرفة ناضجتين من جهة ثانية، لأن الإنسان حينها يكون قد عقد العزم وبمحض إرادته على مواجهة العديد من الخصومات، وجلب لنفسه المزيد من المشكلات، وسيدخل في صراع نفسي من جهة واجتماعي من جهة ثانية مع العديد من الافكار المترسبة في منظومة تفكير الأسرة والمجتمع، ومع القوالب الفكرية الجاهزة التي كان يتغذى عليها الإنسان، أو التي عُبِئَتْ له أثناء فترة التنشئة في البيت وفي المدرسة والمؤسسات الأخرى، التي لها كبير التأثير على فكر الإنسان وتفكيره، فهو قد تربى عليها وتشربت في نفسه منذ نعومه أظفاره، وذلك أمر صعب بمكان هو أن تخلع عن نفسك أفكارًا وسلوكياتٍ كانت تؤطر حياتك أزمانًا طويلة في ظروف حميمية خاصة.
إن المسألة ليست "نية" يعتزم الإنسان المضي بسلوك فعلها وانتهى الأمر، وكأنما هو "حق طبيعي" تمارسه دون أن تتقاذفك سيلٌ من المشكلات، لعل بعضها من العسير بمكان التخلص منها بتلك السهولة المتوقعة، إن تغيير نمط الحياة واسلوب العيش نتيجة لمقدمة "ان تغير من قناعاتك وطرق تفكيرك وفهمك للواقع والأشياء، وحملك تصورات جديدة قد تكون غير مألوفة قبل هذا العزم" انظر إلى الأمر كيف تطور وصار أكثر تعقيدا، فالأشياء متعلقة ببعضها كل واحدة من الفعل تجلب معه ردَّة فعل، وكل نشاط يقود إلى نشاط "هذه الثنائية" هي حقيقة هذا العالم، الذي ننعم بالعيش فيه ودا "لولا التضاد لما عرف الفيض من المبدأ الجواد" كما يقال في الفلسفة الدينية فهو جزء من عملية الفهم وحركة العقل نحو الدقيق من المعرفة، لاحظ كيف بدأنا وإلى أين وصل بنا المطاف.
قرأت ذات مرة في كتابات أهل المعرفة والطرق عن مقامين يمر بهما الإنسان في سيره في عوالم "الكشف والمعرفة"، الأول مقام التخلي والآخر مقام التحلي، ولو قمنا بعملية قياس للمقامين المذكورين على الفكرة، التي نحن بصددها، لوجدناهما ينطبقان عليهما إلى حد كبير، فإن عملية "حط عنك" الأفكار البليدة السابقة، هي أشبه بعملية تخلية للعقل من ذلك الرصيد الكبير الذي كان يشغل حيزاً فيه، وإن إيداع أفكار جديدة وطرق تفكير مختلفة عن السائد، تعتبر بمنزلة التحلي" أو التزين بما هو جديد ويوصف بأنه جيد" وهاتان العمليتان ليستا سهلتي المنال، بل هما أول الأمر بحاجة إلى تفكير كثير، وفهم دقيق وصحيح لهما ولمتعلقهما، وكذلك إلى معرفة واضحة بما يقوم به أي إنسان في هذا السير العقلي التجديدي.
إن سر فهم أي شيء هو معرفته، وهذا الفهم يمر بمراحل من البحث والتحليل والايضاحات والمراجعات، ثم يأتي دور تركيب الفكرة الجديدة فبدونها "المراحل التي يتم من خلالها الفهم"، يبقى كل شيء منقوصاً أو مشوهاً وغير مكتمل، وربما يكون السلوك الواقف على تلك المعرفة المنقوصة عرضة للوقوع في الاخطاء وهذا أمر لا نقاش فيه، لأن المعرفة الناقصة تقود إلى سوء الفهم وإلى سوء تقدير المواقف، وبالتالي إلى عدم التأني والعجالة الموقعة في الخطأ لا محالة، وهذا ما يسمى في الفلسفة "بالعائق المعرفي" أن النقص بالمعرفة اللازمة لفعل أو لشيء ما تكون حائلاً، أمام الفهم الصحيح، وأما السلوك الناضج الناجم عن تلك المعرفة وعن ذلك العائق المعرفي.
وأنا أرى أن في هذه اللحظة من عمر نمو عقل الإنسان، تبدأ الفلسفة وهذه اللحظة في الفهم والادراك تشكل أصلاً من أصول التفلسف، حيث أنها "أي الفلسفة" تبرز في اللحظة التي يبدأ الإنسان فيها يفطن لما حوله من الاشياء "وحينما تنمو فيه رغبة الكشف عمَّاهية ما يحيط به من حقائق وظواهر كونية "اصل العالم ونظام الوجود ومصير الأشياء"، وكذلك من ظواهر نفسية "الحب والبغض والتودد والدهشة والاعجاب الشديد"، ومن خلال التعمق في فهم تلك الظواهر" وهذا ما أسميه بالنضج الفلسفي، فيبدأ بطرح أسئلة غريبة عن الواقع السائد أسئلة، تثير من حوله وتستفزهم، وقد تقود إلى خصومات ومواجهات لم تكن في الحسبان، هذه اللحظة من النضج في تطور العقل الفلسفي للإنسان، هي التي جرت الويلات على الفلاسفة، وجلبت المعاناة للفلسفة عموماً، فسيل الهموم والمشكلات والمواجهات العديدة مع السائد، ومع السلطات المختلفة، هو ما جعل الفلسفة غريبة ينظر اليها باِرتياب، وهذا التصور للفلسفة جعلها مرمى لسهام جهات عديدة وعتيدة اثرت عليها وأبعدتها عن متناول عامة الناس وعزلت الفلسفة عن الواقع.