سيميائيَّات التقبيل

ثقافة 2024/09/05
...

  عبد الغفار العطوي

طالما أثيرت ظاهرة التقبيل بين البشر منذ القدم "أول اكتشاف لظاهرة التقبيل عثر عليه على ألواح طينيَّة في بلاد ما بين النهرين منذ عام 3500 ق م". وربما وجدت في أماكن أخرى. وتعد ظاهرة التقبيل من توابع شهوة الحب والوقوع فيه وكيميائه ونسيجه في جذوة الغرام والارتباط بالمحب، لكي نتساءل: لماذا نحب؟، قبل تطوره إلى أنواع مختلفة، تصنف حسب شدة الحب، ليأتي الحب الرومانسي في المقدمة "لماذا نحبّ؟

لهيلين فيش ر"، ومن دون شك يمكن إرجاعها إلى نوع من الخطاب الاستعاري في الآليات الواصفة "أ- د أحمد الحيزم"، كما نعتقد أنّها تدخل في محتويات علم السيميولوجيا "السيميولوجيا الاجتماعية للدكتور محسن بوعزيزي". من ناحية أنّها تبدو ظاهرة اجتماعية تحمل مزايا سيميولوجية لسانية بصرية بروكسيمية، تأخذ بعين الاعتبار دوائر القرب في تفاعل العلامات مع علم المكان "البروكسيميا" يفصل إدوارد هال الظاهرة هذه وفق اشتراطات انسياب العلامة، أو ما يطلق عليه بالفضاء الذي يفصل بين حدود الأشخاص، من حيث أن لكل كائن حي حدّاً فيزياويّاً ويفصله عن المحيط الخارجي. وهناك نوع آخر من الحدود غير فيزيائي مستقل عن الحد الفيزيائي، وهذا الحد الجديد أكثر صعوبة في  تعريفه، في الفضاء الفاصل بيننا كأفراد هو الذي يتم الاشتغال عليه في ظاهرة التقبيل والعناق والضم الجسدي، والفضاء بذلك له استعمالات مختلفة في مختلف الثقافات، بما يشكله من عامل في تمييز تلك الثقافات، وكيفيَّة استخدامها كدلالات سيميائيَّة لفظيَّة بصريَّة لسانيَّة، وما وراء لسانيَّة. 

وتبدو ظاهرة التقبيل بين الناس عامة مطلقة في أول انطلاقها، تعطي دلالة فهم أو ادراك القرب الذي يريد الكائن الحي استغلاله من دون أضرار للطرفين، ولابتكار التقبيل صلة في استعمال  لغة الحوار واستراتيجية المحادثة على أكمل وجه من خلال اختيار ماهية المكان أو الفضاء "البروكسيميا – وتعني باليونانية: المكان" لأن تعيينه يعد عبارة عن مدخل لدراسة رسالة التبليغ، فلا يتم التقبيل سوى بمحتوى التبليغ، أدريان ريش وضع مفهوماً خاصاً لما يسمى بالنظام الروكسيمي الذي هو عبارة عن مجموعة من الأدلة غير اللغوية التي ترتبط مع بعضها البعض لتخلق نمطاً معيناً من العادات التواصليّة تدعى بالسلوك البروكسيمي، فقد كانت ظاهرة التقبيل تحقق فقط رسالة التبليغ في لحظة إشغال المكان "الفضاء" بسيميّاء غير لغويّة أساسها التجاذب العاطفي الجسدي بلا تمييز في التبليغ، بما يسميها ريشي بالانقلاب الشمسي.        

 ومن المعروف أنّ رولان بارت هو الذي اعتبر العلامة نوعاً من أنواع اللغة، فإنّ عرفنا السيميائيَّة بكونها علماً ظهر نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أسهم في تطور اللغة، منذ أن عرف سوسير السيميائيَّة بأنّها علم يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، واستطاعت مدرسة بارت أن تضع للعلامة من كونها لغة علوماً متعددة سميت باللسانيات، لكن بارت اصدر كتابين مهمين هما "أسطوريات أساطير الحياة اليوميَّة" والثاني "امبراطور العلامات" درس فيهما باختلاف منهجي جملة من العلائق الرمزيّة في نظام اللغة والعلامة في الحياة الاجتماعيّة، مما سهل على السيميائيّة أن توجد اقتراحات في مفهوم حياة العلامة ودلالتها في الفضاء الفاصل بين الأشخاص، خاصة في دوائر القرب في المنطق العلائقي الرمزي من نظام القرابة إلى نظام اللغة، الذي ميّز بين أنواع القبل وكيفيّة توزيعها وممارستها وفق تسلسل نظام القرابة على ضوء انتقله إلى نظام لغة، فقد كانت الدوائر الثلاث التي انحصرت في القرابة وفق نظام المصاهرة الاجتماعية، ودائرة اللغة "نظام التبادلات" ونظام الرمز "البنى الدلاليّة" التي دفعت ظاهرة التقبيل والعناق إلى أن تتوزع عبر تلك الدوائر بعد أن تعمق الفضاء الفاصل بين الأشخاص واحتيج للتمايز العلائقي عبر لغة الحوار واستراتيجية المحادثة بدخول أفعال الكلام. ونجحت السيميائيّة من الوصول إلى تمييز نمط التقبيل حسب علاقة المصاهرة وارتباط الرمز بالنظام التبادلي في اللغة، فقد كانت ظاهرة التقبيل الرومانسي "التقبيل عن طريق الفم بين الرجل والمرأة" هي الشائعة والسائدة، تحولت نحو ظاهرة، وهو عبارة عن تقبيل متنوع وفق سلم;7 "المصاهرة؛ الأم، الأب، الأخ، إلى الأغيار"، بل أصبح التقبيل دائرة منفصلة وحدها تفصل  بتشديد الصاد، نظام اللغة وفق نظام القرابة. وبمرور الزمن تبنت البنى الدلاليّة للرمز الدائرة الأساسيّة في التحكّم بطرق التقبيل وفق اشتراطات نظام القرابة، فصار نظام اللغة هو المقيد لنظام القرابة، لنجد أنّ ظاهرة التقبيل اتّسعت في شغل الفضاء بعلامات غير لغويّة، لهذا استغل بارت في كتابه "اسطوريات" وكذلك "يوميات الحداد" في تعميق نظام القرابة في رثاء أمه. الإيماءات التي وظفها في استراتيجية المحادثة التي استعيرت من نظرية الالعاب في رسم الأفعال المتتابعة قصد هدف واحد، فظاهرة التقبيل هي عبارة عن سلسلة من حركات يضمها الفضاء بسيمياء غير لغوي بين الطرفين يحققان إشباعاً لحركة الجسد لا شعورية، لكنها منظمة ومنضبطة تحقق تجاوباً متناغماً من نظام اللغة المتعارف عليها بين الطرفين "تقبيل المحارم والأصدقاء والأقارب المقربين، والأباعد والغرباء والقبل الخيالية، وقبل الهواء الخ". بدوره قام كلود ليفي شتراوس باستنتاج مهم في كتابه "نظم القرابة والزواج والأساطير" في تحديد المحرم من الأقارب في السماح لهم بالزواج، والأقارب غير المسموح لهم بالزواج في المفاهيم التي استنتجها وفق نظرية لتحليل الفرق بين طبيعة الأقارب. 

وهذا ما وجده في نظام اللغة، لهذا بدا أنّ استراتيجية المحادثة التي يتخللها مشاهد التقبيل يجب أن تراعي كيف يتم استعمال إيمائيّة الجسم في التفاعل الثنائي وفق مقتضى توافق نظام القرابة مع نظام اللغة، لأنَّ ملاحظة المتحدثين للمسافة التي يتبنونها خارج فرديَّة ووضعيات مختلفة حسب أنماط التفاعل، وترتبط بالقواعد الثقافيَّة المضمرة. وأشار ادورد هال في تعميق الاستفادة من الايتولوجيا المقارنة إلى أنواع من المسافات القيميَّة في بحثه في فئة المراهقين التي تعد أنموذجيَّة في دراسة المسافات الفاصلة، أو التي تلزم من أن تكون حدوداً قيميَّة في تشخيص فكرة إشغال المكان لمعرفة مدى ما تحمله صورة التقبيل من 

معنى قرابي متفق مع العرف الاجتماعي الذي يختلف فيه في المجتمعات والعلاقات.