إنوما إليش.. سرديَّات أسطورة الخلق

ثقافة 2024/09/08
...

  د. سمير الخليل

تتجلّى خصائص وأبعاد الخطاب الميثولوجي في مجموعة "إنوما إليش" للقاصة المصريَّة منّة الله سامي وفق صياغة تعبيرية لا تعتمد أسلوب التمثّل المجرد بل تنطلق في عوالم مفتوحة لإعادة انتاج واكتشاف المتون الميثولوجية للحضارة الرافدينية وصياغة أنساق المحكي المؤسطر لاستلهام الثيمات والمحتوى والإحالات الكونية، والوجودية التي تتضمّنها وتنطوي عليها تلك المتون.
والمؤكد أنّ التوغّل في عوالم الأسطرة والتماهي مع الألهنة وأنصاف الآلهة، والصراع الكوني يتطلّب قدرة على مستوى عالٍ من توظيف عناصر السرد الميثولوجي من أمكنة وأزمنة ومناخات وتحولات وطقوس، ولغة عُلويّة تكشف عن طبيعة الصراعات والاحتدامات بنسقها الميثولوجي عبر أبعاد الصراع بين الثنائيات المتضادة والثنائيات المتماثلة التي يفرزها الاحتدام: بين "الأعلى والأسفل" و"القوة والضعف" و"التملك والضياع" و"السلطة والآخر" و"الأنوثة والذكورة" و"الحلم والكابوس" و"الحرية والاستبداد" و"المعنى واللامعنى" و"جدل الأرض والسماوي" و"التجريد والتجسيد" و"الحقيقة والمجاز" و"التصوّر والمفارقة".
 ولعلّ الصراع في هذه العوالم يتخذ أبعاداً لا تنتمي إلى الأسطرة والمجرّدة، وإلاّ فإنَّ السرد يفقد دلالاته وتعبيراته وتماسّاته مع ما هو سماوي وأرضي، فإنّ إعادة انتاج المحكي الأسطوري ينطلق في جعله بوتقة لإنتاج الرؤى والتجلّيات التي تنطلق للبحث عن الذات والكينونة، والمطلق الوجودي، وليس مجرّد استنساخ ومحاكاة ذات البعد الأحادي، والقيمة المثيولوجية، وعلى الرغم من أنَّ النّصوص تمركزت حول الألهنة والسلطة والتملك والحرية والاستعباد، والفرداني والجمعي، والطغيان والعدالة والذات والآخر، والموروث والمتحرك، غير أنّها استوحت كل أبعاد ودلالات الصراع، وتعدّد معانيه وتداعياته، ومتّجهاته من خلال الصراع الثنائي الذي يعكس التضاد بين الأنوثة والذكورة وجدل الألهنة والتملّك.
إنَّ المعنى القصدي، وقصدية المعنى تتجاوز التضاد المركزي والتقليدي المعهود باتّجاه تضادات أخرى متناسلة تعبّر عن الساكن والمتحرّك، والإرغام والخضوع، والضعف والقوة، والإرادة والضرورة والحريّة والانعتاق، والخارج والداخل، والمكوث والانطلاق، ويمكن الاستدلال على التباين وتعدّدية هذه الثنائيات بالانطلاق من الثنائية المركزيّة "الأعلى والأسفل" أو "الأرضي والسماوي" و"الأنوثة والذكورة" وهي بمثابة التقسيم الطبقي وصراعاته فالكائنات الميثولوجية تتصارع، ويحتدم التزاحم بينها للحصول على الملك والنفوذ والقدرة، وهو صراع ينبئ بما سيكون عليه البشر من أنواع أخرى من الاحتدام والتناقض والتضاد، فهذه الكائنات "نصف الأرضية ونصف السماوية"، تتنازل في سوح المواجهة ويرتكز سلوكها على النزعة المرتبطة والمعبّرة عن التمركز الأنوي الهادف إلى إزاحة الآخر، فكيف سيكون شكل الاحتدام وعنفه والصراع بين الكائنات البشريّة؟
لعلّ هذه الإفاضة أو الاستقراء يوحي بما تنطوي عليه القراءة التأويليّة للمتون الميثولوجية، وما تعبّر عنه من فكرة الصراع بين الأضداد وغيرها، والبحث عن الذات والكينونة والاستحواذ الذي يشكّل اللوغوس الوجودي في كل أنواع الوجود الإنسانية والميثولوجية، وفي كلّ النظم والمجتمعات البدائية والمشاعية والمتحضّرة البسيطة والمركّبة والمغلقة والمفتوحة.
إنَّ القاصّة منّة الله سامي قد ارتكزت على هذه الموجّهات في رصدها وإعادة اكتشافها للمجتمعات والعوالم الميثولوجيّة وفكرة التضاد والتصارع التي تحرّك تلك الفضاءات وبدوافع أنويّة تجمع بين هالة التقديس وبريق المجد الدنيوي وهذه الإشكالية الثنائية هي إحدى محرّكات الفيض الوجودي للأنساق الميثولوجية بكلّ أبعادها ودلالاتها وتداعياتها، وعلى وفق هذا المفهوم فإنَّ سرديّات هذه المجموعة تعكس توجّهاً محدّداً هو تجسيد العوالم الميثولوجية والتوغّل في طقوسها وأسرارها وقوانينها بوصفها الكمون البدئي للمجتمعات البشرية التي تليها وبطبيعة الحال فإنّ اللاحق يرث تقاليد وأسرار السابق، فالمجتمعات البشرية قد ورثت كثيراً من الطقوس الميثولوجيّة لا سيما قيم التمركز والأنويّة وإزاحة النظير المضاد ومحاولة الهيمنة وتأطيرها بالنسق المقدّس لتعميق شكل وطبيعة الاستحواذ الكلياني.