حازم رعد
لأجل أن تصل الفلسفة لـ متناول المتلقي العام "بمعنى أنّه يتمكّن من فهمها"، وهو ما عقدت له فصلاً في بحثنا التجربة الفلسفيّة كمشروع فيه مجموعة من الاقتراحات للنزول بالفلسفة إلى الواقع العملي، منها فكّ أسر الفلسفة من داخل حبسها الأكاديمي "فإن الملاحظ وجود بون شاسع بين المنهج الاكاديمي للفلسفة وبين فاهمة المتلقي العام، لأنَّ صعوبة المصطلح وتعقيد النص ولغة الكتابة الصعبة تجعل هناك صعوبة كبيرة في استيعاب الفلسفة ما جعلها محل عزلة عن الواقع والمجتمع. وأيضاً أن واحدة من تلك الاطروحات التي أطلق عليها "ربط الفلسفة بالمتلقي العام" هو أن نبسّط المقول الفلسفي بحيث يمكن فهم النصوص ودراية غاياتها ومعرفة كيف يتم تلقيها والعمل وفقها.
ليس هناك معنى أن نكتب بطريقة لا يفهمها عامة الناس، حتى اولئك الذين نالوا على تحصيل علميٍّ معتدٍّ به في الاكاديميات وغيرها من مختلف التخصصات، فإن كتاباتنا التي توسم بأنّها "صعوبة" لن تكون مثار إعجاب الآخرين، بل لن نجني من ورائها إلا الازدراء والتندر.
مرةً كتبت مقالاً أشبعته بالعديد من المفاهيم "من تلك التي لا يفهمها العامة" وقع المقال بيد أحد الأصدقاء من أساتذة الفلسفة المهمين وحينها بادرني بسؤال استفهامي: لمن تكتب؟ إن كان للمتلقي العام فهو لن يفهم معناه لأنّه مشبع بمفاهيم صعبة تحتاج لمقدمات معرفية ومنهجية عديدة لفك رموزها، وإن كنت تكتب لأناس مثلي "وهو استاذ فلسفة مهم جداً" فإنّ ذلك لن يغير في الأمر شيئاً، لأني أعرف ما تكتبه من قبل أن تكتبه حتى!، وحينها أدركت أن هناك ضرورة لتبسيط القول الفلسفي والنزول به إلى حيز المجتمع والواقع.
إنَّ تبسيط طرح الفلسفة واحدة من أهم الطرق في كتابة النص الفلسفي بلغة مفهومة عند المتلقي العام، لكي يستوعب تلك النصوص والمفاهيم التي عبر عنها على مر التاريخ بلغة أقل ما يقال عنها "عصية على الاستيعاب بسهولة" وقد لا يكون ذلك عيباً يحتمله النص الفلسفي، وإنّما هو راجع للمتلقي العام نفسه الذي هو غالباً لا يكلّف نفسه عناء الاستمرار بقراءة النصوص الفلسفيَّة وتفكيكها ومحاولات تحليلها والوقوف على معانيها ودلالاتها.
وقد شهدت هذه الكيفيَّة في الكتابة "أي تبسيط الفلسفة" محاولات مماثلة عرفت بالفلسفة الشعبيَّة التي يفسّرها لالاند بأنّها كتابة الفلسفة بطريقة بسيطة قريبة من الذهنية العامة ويصفها ديدرو بأنها طريقة قمينة وجديرة بمكان. ولذا سلّط بعض أعلام الفلسفة اهتمامهم على كتابة النص الفلسفي، بهذا الأسلوب لعل أول من أشتهر بذلك هو الالماني بافلوف ومندرسون، وهناك أيضاً كتاب حمل عنوان "الفلسفة الشعبية" للفيلسوف الامريكي مايكل ساندل، وكذلك كتاب آخر للفيلسوف الكندي جيمس تولي الذي كتب بهذه الطريقة السلسة الفهم.
والجدير بالذكر أن هذه الطريقة لا تقلل من شأن لغة الفلسفة، ولا تتنازل عن أدوات كتابتها، ولا تطيح بخصائص التفلسف، وإنما تنقل النص الفلسفي إلى العامة بطريقة يسهل تلقيها واستيعابها مع الحفاظ على المطالب والأدوات والمنهج الفلسفي في النصوص المكتوبة والمقروءة، والغاية من ذلك هو نشر التفكير العقلاني في ربوع الوحدات الاجتماعية لكي يجعله فكراً عمومياً يؤطر الحياة العامة وكذلك لكي تفهم الفلسفة ويطلع القارئ على حقيقتها وكنهها ولا يجد صعوبة في تناولها وهضم مطالبها.
وهذا المشروع وهو تبسيط الفلسفة من الاولويات التي أعمل عليها من خلال كتابة النصوص الفلسفيَّة بطريقة المقال الصحفي، ولغة الصحافة مفهومة عند طبقات الناس المختلفة، كما أنها تختزل الادوات والمناهج الفلسفيّة في تناول النص من حيث تأمله وتحليله ونقده والبحث عن ضالة طالب المعرفة، وهي الحقيقة وأسلوب الصحافة يشبه إلى حد كبير ما يقوم به المتفلسف من خلال الحفر في النص الفلسفي وتتبع النسق الذي انساب فيه، وتحليله والكشف عن المسكوت عنه. لذا أجده مناسباً لمجموعة من الكتاب أو الاشتغالات أن تصب الاهتمام على هذه الطريقة الفريدة في ايصال الفلسفة إلى المتلقي العام وجعلها متناول فاهمته.