ناجي الغزي
على مدار عقود طويلة، كانت الأمم المتحدة تمثل البنية الأساسية للنظام الدولي، الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية. هذا النظام، الذي أسس على مبادئ السلام والأمن الدوليين، قام على توازن قوى، كان يفترض أنه سيمنع نشوب صراعات عالمية كبرى مرة أخرى، حسب ميثاق الامم المتحدة، والغاية التي أقامت من أجلها المنظمة.
لكن مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، بدأت تظهر تصدعات عميقة في هذا النظام، ما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة الأمم المتحدة على الاستمرار كضابط للنظام العالمي.
تقويض النظام القائم: من الهيمنة
إلى الفوضى
النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية كان نتاج تفاهمات بين القوى الكبرى، تلك الدول التي اجتمعت لتضع أسس نظام عالمي جديد يمنع تكرار ويلات الحروب. ومع ذلك، فإن تلك القوى نفسها هي التي أصبحت اليوم تقوض هذا
النظام.
فمنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، شهد العالم تراجعا ملحوظا لمفهوم "العالم الحر"، الذي سعت الأمم المتحدة لترسيخه. لم يعد لمجلس الأمن الدولي القدرة على فرض إرادته، حيث أصبحت قراراته رهينة لحق النقض الذي تستخدمه الدول الكبرى بشكل متزايد لخدمة مصالحها القومية الضيقة.
إن هذا الصراع الداخلي بين الدول الكبرى، لم يتوقف عند الحدود الدبلوماسية. بل أصبح يدار على ساحة الأمم المتحدة نفسها، حيث تتحول القاعة الكبرى لمجلس الأمن إلى ساحة معركة بين القوى العظمى. روسيا والصين من جهة، وأمريكا وحلفاؤها الغربيون من جهة أخرى، يتبادلون الاتهامات، ويستخدمون مجلس الأمن كأداة لتعزيز مواقفهم، دون أن تكون هناك أي إرادة حقيقية لحل النزاعات أو التوصل إلى تسويات سلمية.
هذا الفشل في معالجة الأزمات الكبرى كالحرب الروسية الأوكرانية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يؤكد تآكل الدور التقليدي للأمم المتحدة. المنظمة التي كانت تعد رمزًا للأمل في عالم أكثر عدلاً وسلاماً، باتت عاجزة عن حماية حتى وكالاتها الفرعية، مثل "الأنروا"، التي تتعرض للضغط والحصار المالي في غزة، دون أن تتمكن الأمم المتحدة من توفير الحماية اللازمة لها.
ولا يقتصر الأمر على الحروب والصراعات العسكرية فقط. فقد تجلت أوجه الضعف الأممي بشكل واضح خلال جائحة كورونا، حيث لم تستطع منظمة الصحة العالمية (WHO) تحت قيادة الأمم المتحدة، من مواجهة الجائحة بكفاءة، بسبب الضغوط السياسية والاتهام السياسي لها وانعدام التعاون الدولي معها. هذا الضعف كان مؤشراً على أن الأمم المتحدة لم تعد قادرة على تلبية احتياجات العالم المتغير، وأن النظام الذي تأسست عليه لم يعد يصلح لعالم اليوم.
صعود القوى الجديدة: تشكل النظام العالمي الجديد
في مقابل هذا التراجع الأممي، نشهد اليوم صعوداً ملحوظاً لقوى جديدة على الساحة الدولية. تجمعات مثل البريكس (BRICS)، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وتكتلات أخرى كآسيان (ASEAN)، بدأت في لعب أدوار متزايدة الأهمية في تشكيل النظام العالمي الجديد. هذه القوى، التي تعتمد في المقام الأول على قوتها الاقتصادية، باتت تمتلك نفوذاً متزايداً يوازي، إن لم يتفوق، على النفوذ العسكري التقليدي.
ما يميز هذه القوى هو التنوع الكبير في مواردها، سواء من حيث السكان أو الثروات الطبيعية أو الأسواق الواسعة. هذه العوامل تمنحها ميزة تنافسية تمكنها من فرض رؤيتها على الساحة الدولية، وتحدي النظام التقليدي الذي كان يهيمن عليه الغرب لعقود طويلة. فعلى سبيل المثال، تجمع البريكس يضم دولاً نووية كروسيا والصين والهند، ودولاً ذات اقتصاديات متنامية بشكل سريع كالبرازيل وجنوب أفريقيا. هذه الدول بدأت تشكل تحالفات وشراكات اقتصادية وسياسية تستهدف تقويض الهيمنة الغربية التقليدية، وفرض نظام عالمي جديد يقوم على تعدد
الأقطاب.
دول قابلة للتكيف المبكر
من بين القوى التي أدركت مبكراً هذا التحول في النظام العالمي، تبرز دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والامارات العربية وقطر. هذه الدول، التي تتمتع بثروات طبيعية هائلة وقوة مالية كبيرة، بدأت في إعادة صياغة استراتيجياتها بما يتناسب مع المتغيرات الجديدة. فقد أدركت أن الانفتاح على التكتلات الصاعدة، مثل البريكس ومنظمة شنغهاي، يمكن أن يمنحها مزيداً من النفوذ والقدرة على التأثير في مجريات الأمور الدولية.
وقد عملت دول الخليج على تنويع شراكاتها الاقتصادية، واستقطاب الاستثمارات العالمية، وتطوير قدراتها الذاتية في مجالات عديدة، بما في ذلك التكنولوجيا والصناعات العسكرية. هذه الخطوات لم تكن مجرد ردود أفعال آنية، بل جاءت ضمن رؤى استراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى تعزيز استقلالية القرار الخليجي، وتأمين مكانة مؤثرة في النظام العالمي الجديد. ولعل أبرز ما يميز هذه الاستراتيجيات هو التركيز على الحوار والتفاوض كوسائل لحل النزاعات، مما يعكس نضجاً سياسياً ورؤية بعيدة المدى للأمن والاستقرار
الإقليمي.
المستقبل: نحو عالم متعدد الأقطاب
من الواضح أن النظام العالمي الجديد لن يشبه النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. نحن أمام تحول جذري نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث تلعب القوى الاقتصادية دوراً أكثر حسماً من القوة العسكرية. وإن دولاً مثل تلك المنضوية تحت تجمع البريكس ومنظمة شنغهاي، إضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، ستصبح شركاء أساسيين في صياغة مستقبل العالم، وليس مجرد لاعبين ثانويين.
العالم بعد الحرب الروسية الأوكرانية لن يكون كما كان قبلها. النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية يلفظ أنفاسه الأخيرة، والعالم يستعد لاستقبال نظام جديد، تحكمه توازنات مختلفة، وتتحكم فيه قوى جديدة. هذه التحولات ستفرض على جميع الدول، بما في ذلك الدول العربية، إعادة التفكير في سياساتها واستراتيجياتها لضمان مكان لها في النظام العالمي الجديد.