كاظم لفتة جبر
مُنذ القدم تعلم الإنسان على استخدام الوسيلة لتحقيق هدفه، أو تصنيع حاجته، كما أن كل صنعة أو علم يتصف بوجود وسيلة أو أداة للتحقق، فأداة الصياد آلة مصنوعة لهذا الغرض، وأداة الفلاح آلة مصنوعة لغرض الحرث أو الزرع، وهكذا هي المهن الأخرى. فأداة العالم هو التحقق من خلال التجربة. أما الفيلسوف فهل هو العقل؟.
الأغلب يظن أنَّ العقل هو الأداة الأولى للفيلسوف، لكن مع ديكارت صاحب مذهب العقلانيَّة يرى أن العقل هو افضل قسمة بين الناس ويجب أن نعود للعقل لفهم حقيقة حياتنا والعالم. ويؤكد ديكارت أن المشكلة في اختلاف المعرفة ليست في العقل، بل في كيفية استخدام العقل، إذن الفيلسوف يتميز عن الناس بأسلوب التفكير وليس بالعقل.
كما أنَّ أسلوب التفكير عند الفيلسوف يحتاج إلى منهج، والمنهج بحاجة لأسس، والأسس مستمدة من المعارف، والمعارف كثيرة منها فيزيقية "طبيعية" وبعضها ميتافيزيقية "ما بعد الطبيعة"، فالأسس شاملة وعموميّة، أما المنهج فهو خاص بكل فيلسوف، فالمثالية منهج أفلاطون والواقعية منهج أرسطو، والتوفيقية بين الدين ومنهاج الفلسفة قديماً كان منهجا لفلاسفة العصور الوسطى، والعقلي منهج ديكارت، والحدسية منهج برجسون، والتجريبية منهج هيوم، والنقدي منهج كانط، والمادية التاريخية منهج ماركس، والتحليل النفسي منهج فرويد..
إلخ.
لذلك لا يمكن عد العقل أداة الفيلسوف، بل آليَّة استخدامه هي التي تحدد الفيلسوف عن عامة الناس والخوض في العلوم الأخرى، بل يمكن عد العقل أداة التفكير بشكل عام، فهناك من يستخدم عقله من أجل أيديولوجية معينة وهم أصحاب الفلسفات الزائفة، وهناك من يستخدم عقله في علم
معين سواء كان علما طبيعيا أو دينيا وفق محددات ونظريات، وهناك من لا يستخدم عقله إلا لغرض معين مثلاً في التجارة أو الصناعة، لأنه يراها مبتغاه من هذا العالم. أما مبتغى الفلسفة والفيلسوف فهو مختلف عن كل مما ينطوي تحت مبتغى معين. فهو الباحث عمّا ينبغي أن يكون عليه
العالم.
وتختلف رؤى الفلاسفة باختلاف العصر، واختلاف المواقف العالمية، وتطور الوعي والعلوم وانعكاساتها على المجتمع كفرد ودولة، والتغيرات التي تطرأ كضرورة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو وثقافية أو دينية، أو أزمات عالمية من أمراض وبائية أو حروب سياسية.
فالفيلسوف لا يكتفي بالوعي في ميدان تفكيره وعمله، بل يدخل في اللاوعي وآليّات استحواذه على الإنسان، ولا يتحدد بالطبيعي ليربطه بما بعد الطبيعي وان الثاني يؤثر في الأول، وتطور معرفتنا بالثاني يحدد فهمنا لهذا العالم والكون. ولا يرتبط بعلم معين، بل يدخل في جميع العلوم من أجل الوصول لحقيقة. ولا نقصد بالحقيقة في الفلسفة الحقيقة المطلقة فقط، بل لكل بحث في الفلسفة حقيقة يبحث عنها الفيلسوف، لذلك الحقائق نسبية في الفلسفة والكل خاضع للشك والتغير.
فأداة الفيلسوف ليست العقل، بل منهجه الذي يختطه لنفسه، لكن هناك بديهيات فلسفية يشترك بها كل فيلسوف منها الشك، والنقد، والجدل، والفحص، والتفكيك، والبناء والعموميَّة، وعلى ذلك اعتمدت فلسفات "ما بعد الحداثة" لضرورة زمانيَّة عندما امتزجت الفلسفة بالعلوم، وتفرّدت عنها علوم
أخرى.
فأصبحت أداة الفيلسوف معقدة وممتدة وواسعة، فبعد ما كانت تبحث في العموميّات البسيطة، أصبحت تبحث في الجزئيات المعقدة بلغة ادغار موران، فنحن أمام عصر الفلسفات الممتدة المرنة أو السائلة بلغة باومان، وقد يظن البعض أن هذا موت الفلسفة وتشتتها، لكن هذه هي طبيعة التفكير الفلسفي مع المنهج وضده، متغيرة غير ثابتة، محركة ومتحركة. ولا نعلم طبيعتها غداً. فالفلسفة إبداع، قائم على تجديد العقل بأدوات
العصر.
وخير مثال يوضح فكرتنا هي الفلسفة البرجماتية ذات النزعة الاداتيّة التي تبناها الفيلسوف الأمريكي جون ديوي، وملخصها المعرفة أداة للعمل ووسيلة للتجربة، كما أن المفاهيم والنظريات مجرد أدوات مفيدة، وقيمتها لا تقاس بكون المفاهيم والنظريات صحيحة أو خاطئة. أو ما إذا كانت تصور الواقع بشكل صحيح، ولكن من خلال مدى فعاليتها في شرح الظواهر والتنبؤ بها. والحقيقة ليست ثابتة ولكنها تتغيّر مع تغيّر المشكلات، ونجاح الفكرة يتم من خلال قدرتها على إيجاد حلول للمشكلات التي تواجه البشر، وقيمتها من ثمّ تتحدد بوظيفتها في التجربة الإنسانيَّة.