تجربة النقد من النظريَّة إلى الرؤية

ثقافة 2024/09/22
...

  محمد صابر عبيد

تتخطى التجربة النقديَّة حدود الفهم الذوقي للنصوص الأدبيَّة إلى وعي نظري يقوم على تلقي نظريات نقديَّة عديدة، أسهمت جهود علميّة وفلسفيّة ونقدية كبيرة في إنتاجها على مرّ الزمن ولدى مختلف الشعوب، وأفرزت شبكة رؤيات نقديّة تعززت على يد نقاد كبار أسسوا مناهجهم النقدية عليها، وأدركوا الطريقة التي مكنتهم من تطوير الفعالية النقديّة في حساسيّة انتقالها من منطقة النظرية إلى منطقة الرؤية والمنهج.
تحظى تجربة النقد - بوصفها تجربة راقية من تجارب المعرفة- بأهمية كبيرة وخطيرة في سياق نظريات الأدب الكبرى، لما تؤلّفه من حضور بارز وحيوي في قراءة النصوص واستنطاق رؤاها واستقراء مكوناتها واستجلاء خفاياها وإدراك مقولتها المركزيّة، على النحو الذي ينعكس على قيمة الإنسان وخطورة وجوده الجمالي في الحياة وحضوره في الأشياء.
  إنَّ مفهوم التجربة في هذا الإطار تتمثّل في طبيعة المنجز النقدي الذي تمكّن من توكيد حضور ما له في المشهد النقدي الراهن على أكثر من صعيد، وأهمية هذا الحضور في توجيه معطى نقدي خاص؛ يعمل ضمن أفق ذاتي على تكريس خصائص وميزات ورؤى وقيم معينة ناضجة، يمكن أن يستند إليها الناقد في تحقيق خصوصيته وتفرّده وصوته النقدي المتميز بوصفه علامة أصيلة، بجانب الخصوصيّات الأخرى التي استطاعت أن تلفت الانتباه إلى حيويتها وخصوصيّة مشروعها وتفرّده.
لم يعد النقد في ظلّ الثورة المنهجيّة النقديّة في العالم المعاصر فعالية ذوقية استمتاعية مجردة؛ لا تقوم على رؤية واضحة ومنهج فاعل وكتابة واعية، بل تحوّل إلى نوع من القراءة العميقة القائمة في تشكيلها النظري الجوهري على أسس معرفيّة وفلسفيّة؛ تعّمق الرؤية وتضاعف القيمة الإجرائية، وتؤدي إلى نتائج تمتد أحياناً حتى خارج العملية الأدبيّة بمعناها الضيّق الذي يتحدد عادةً بين حدود الكاتب والقارئ على نحو خاص، لتشمل الحياة بأسرها بوصفها فعالية يحتلّ الأدب بمعناه النظري العميق والحيوي والفاعل جزءاً أصيلاً من تشكيلها واستمراريتها وتطوير رؤاها وتداولها.
  ومن هنا أصبح من الواجب على المشتغلين في هذا الحقل توسيع مفهوم التجربة النقديّة وتخصيبها وتعميق رؤاها، على النحو الذي يناسب وظيفتها الجديدة التي تتجاوز حدود العملية الأدبيّة؛ حيث يتطلّب منها تقديم تفسير وتحليل وتأويل للنصوص فقط، والاتجاه نحو إثراء مفهوم القراءة وإغنائه بالطريقة التي تصبح فيها القراءة النقديّة قراءة مركّبة كثيفة ذات طبقات متعددة، لا تستغني بأي حال من الأحوال عن فضاء المتعة الذي هو شرط أساس لولوج فضاءات جديدة لا تصلها القراءة العابرة، لكنها تنفتح على مستويات أخرى تتسع لقضايا الإنسان - ذاكرةً وحلماً ومصيراً- بالمعنى الحيوي الراقي والحضاري الكوني لمفهوم القضية النقدية.
   إذ إن العمل الأدبي اليوم هو ثمرة ثقافية خصبة للمعايشة العميقة والجوهرية لقضايا الإنسان وتجاربه الجمالية في المكان والزمن والرؤيا والتشكيل والفن والحياة، لذا لا يمكن قراءة النص الذي يمثل أداة الاتصال الأولى في العمل الأدبي من دون الاستعانة بالمرجعية الاجتماعية والثقافية، على النحو الذي ينعكس فيه الثقافي والاجتماعي في النصي والنصي في الثقافي والاجتماعي.
  ولا يتوقف هذا السياق الثقافي عند حدود النص بل ينتقل إلى مساحة القارئ أيضاً وبصورة حثيثة، بحيث يمتد السياق الثقافي من الناص إلى النص إلى المتلقي في عملية اندماجية منتجة لا تتوقف عند حدّ.
  لم يعد مفهوم المتعة في القراءة منعزلاً عن متعة المفهوم في صفائه النظري الاصطلاحي المتكامل، وأصبح الإشكال المفهومي بين قراءة المتعة ومتعة القراءة عاملا فعّالا في الارتفاع بشبكة المفاهيم العاملة في هذا الميدان إلى مرتبة عالية في المساق الحضاري المنتج، عبر إدراك نوعي للنزعة الإنسانيّة في أسلوبيّة القراءة وأنموذج المقروء وحساسيّة تأويله على أنحاء مختلفة، وإدراجه ضمن كون ثقافي أوسع وأعمق وأكثر حيويّة يُقرأ النص بدلالته واستناداً إلى مكوناته وإيحاءاته ومعطياته.
تصبح تجربة النقد من هذا المنطلق تجربة في الحياة والثقافة والحضارة والكون والطبيعة والتفاصيل والأشياء، تسمح للفاعل النقدي أن يتدخّل في أعماق النصوص للكشف عن جمالياتها ورؤاها وقيمها وطاقات المعنى فيها وفي ظلالها، على النحو الذي يعمّق في الحياة روحها النبيل الأصيل، ويقارب الثقافة بمخزونها المعرفي الذي يسهم في رقي الإنسان وتحضّره، ويدعم الفكرة التقدميّة والطليعيّة والتنويريّة في الحضارة والحياة، ويحقق وحدة الكون والطبيعة على الشكل الذي يجعل الحرية سبباً في التلاقي لا الافتراق.
تبدو المهمّة بهذا الحمل الثقيل عسيرة على تجربة نوعيّة ربما يراها البعض محدودة على نحو من الأنحاء، ولا يمكن أن تقود بأي شكل من الأشكال إلى مصاف مثل هذا الحلم الجميل الذي يتحرك في الأرجاء على وفق رؤية ناضجة ومتقدمة، إلا أن توسيع عتبة التنظير وتوسيع مجال الاشتغال والإجراء وحشد مزيد من الطاقات الفنيّة والاعتباريّة للمشروع النقدي الأصيل، من شأنه أن ينقل مستوى التجربة من الحدود الضيقة إلى أقصى مجال ممكن؛ في الحدود الواسعة غير المتناهية الممتدة في هذا الأفق، والعمل على جعل العملية النقدية في هذا المعيار فعالية حضارية تسهم في تطور الشعوب ورقيّها.