احتضار الكتاب المطبوع وولادة الصورة

ثقافة 2024/09/26
...

  عبد الغفار العطوي

من أكثر الثورات الإنسانيَّة فاعليَّة التي أحدثها البشر الكتابة، ولقد اخترعها أبناء بلاد الرافدين القدماء، على أرجح النظريات التي أشار إليها الخبراء، حيث كانت بداياتها على الألواح الطينيَّة، مما أدى إلى اتساع حدود المعرفة، ببطء شديد، وكانت البشريَّة بحاجة لاستكمال ثورة الكتابة في أن تخترع المطبعة عام 1455 على يد يوهان غوتنبرغ لتحدث نقلة كبيرة في انتشار الكتابة، وبعدها استمرت الاختراعات التي قدمت الكتابة للعالم بسهولة ويسر، كما جعلت المعرفة تطور من قابلياتها، بما تعمل عليه في توصيل نتاجات الناس لبعضهم البعض،

من هنا اتّخذت الكتابة طريقها في تطور المعارف، وأصبحت السمة الأساسيَّة في تميز الحضارات الإنسانيّة عبر العصور، انشئت صناعة الكتاب والمكتبات وقيست مدنيَّة وتقدم الأمم والحضارات بكثرة الاهتمام والعناية بالكتابة وتطوير الكتاب عبر التآليف من قبل مؤلفين وكتبة، الذين تميزوا من كونهم طبقات في مجتمعاتهم المدنيّة، مهمتهم نقل الثقافة والمنجز الحضاري من معارف وعلوم وآداب الخ. وقيست الكتابة على أنّها معيار واضح على مقدار تحضر البشريّة، وميزان لمعرفة الفرق بين الهمجيَّة والمدنيَّة، حتى أنّها، أي الكتابة بدت المظهر الأبرز في متبنيات الفرد والمجتمعات، لأنّها استطاعت أن تحفظ ما يسمّى اللغات الإنسانيّة من أن تندثر في زحمة التحولات  التاريخيَّة للألسن المختلفة التي كانت تمثل الأدوات النطقيَّة لدى البشر وتميزها عن باقي الحيوانات، حينما عرف أرسطو في كتابه المنطق من كون الإنسان حيواناً ناطقاً، بما امتلكه من قابليّة على النطق المميز السليم. وصارت الكتابة المظهر الدايكروني في القواعد والنظم اللغويَّة، بما أدى نحو تطور اللغة وانتظامها في علومها المعروفة، وقيّض للكتابة أن تحمل مشاعل المعرفة البشريَّة ومخاضات الإنسان بامتزاجها باللغة. فمن المفيد القول إنّ السبب الرئيس في شيوعها هو اختزالها لما في العالم الخارجي للإنسان إلى نمط الهجائي "ألف باء" وأن تقف الكتابة مع اللغة في خدمة الإنسان، مع الاشارة إلى أن "اللغة" اتخذت حركة الاستيعاب اللفظي "الدال والمدلول". واحتفظت الكتابة بها عن طريق العلاقة الثابتة كلام – كتابة لكن اللغة لم تكتفِ بهذه الحدود، وتجاوزت إلى ميادين أخرى لم تكن الكتابة تدركها كالصورة "دلالة اللغة وتصميمها جاكندوف – تشومسكي". من ثمّ أوضحت اللغة أنَّ الصورة نمط بصري للغة "السيميولوجيا" فنحت الكتابة  عن الخط الأول عند سوسير وبارت، لكن جاك دريدا رفع من شأنها، حينما فضل الكتابة على اللغة "الكلام" وأصدر مؤلفاته التي كان أشهرها "في علم الكتابة"، مع ذلك برزت الصورة منذ أن طرح سوسير علم السيميولوجيا باعتباره من انجازات اللغة "سوسير، وفتجنشتين.. فلسفة اللغة ولعبة الكلمات لروي هاريس".  وراحت الصورة تنافس الكتابة، وتحقق لها مجالاً فلسفياً واجتماعياً وتقنياً  "فلسفة الصورة.. الصورة بين الفن والتواصل لعبد العالي معزوز" والتقت مع الكتابة في مجال المعرفة "العوالم الرمزيَّة.. الفن والعلم واللغة والطقوس لشيفلر". وفي القرن العشرين قامت ثورة الاتصالات في حقبةٍ ما بعد الحداثة بزحزحة الكتابة قليلاً، وأعلنت موت الكتاب الورقي وولادة الصورة، وظهر علم الاجتماع الآلي مقاربة بين علم الاجتماع والاتصال عبر الحاسوب كي يضع الثورة التقنيّة في خدمة الصورة الساكنة والمتحرّكة، لتحل محل الكتاب، نظراً للتحولات الكبيرة في تقانة المعرفة الرقميَّة، وأن يكون هناك مصطلح "مجتمع المعرفة"  يتصدى لأزمة التحولات التي أدت لقيام مظاهرها. وقام محمد نور الدين افاية في كتابه "الوعي بالاعتراف" بمناقشة تلك المعرفة في أدق ما أثارته أسئلة المعرفة، وهي تتعرض لعاصفة التحولات الحادة في "زمن العالم" حيث لم تعد مسألة المعرفة اختياراً، وإنما قضية مصير وسؤال انتماء إلى زمن العالم. بمعنى أن المعرفة في حال تطور العالم واستجابته للمتغيرات في التقانة الهابطة عليه من ثورة الاتصالات، لا بدَّ أن يجد نفسه مندفعاً بقوة تلك التحولات كي يتبدّل في رؤيته. لقد دخلت الإنسانيّة إلى "براديغيم" معرفي  وتبادلي جديد، أي أن تجد المعرفة أنّها تتوسّع في دائرة القبول العلمي المنهجي، كانت تدرك المعرفة نفسها أنها ما زالت محاصرة في عالم صناعها الكتبة. هناك فتح آخر غير من وجهة نظرها، تمثل في التكنولوجيا الجديدة للإعلام والاتصال "ثورت" جذريّاً وسائط نقل المعرفة وتداولها، ووسعت من دائرة الفضاءات العامة التي يمكن للإنسان المعاصر الانتهال من مصادر المعلومة والمعرفة، فقدت الكتابة مسارات الضبط المعرفي، وكادت تصبح محاولات "هسهسة اللغة لرولان بارت" إلى مجرد رهانات التفكير في أسئلة العصر المحيرة  نحو "غرفة التظهير" التي أعدها رولان بارت في بلاغة الصورة إلى عالم موحش للكتابة، الكتاب مات، أو هو يلفظ أنفاسه الأخيرة على أعتاب مجتمع شبكي، لتكون المعرفة اقتصاداً حراً وربما نقع في الفجوة الرقميَّة، ووفق هذا التصور تظهر الصورة التي لا تموت كما توقعها ريجيس دوبري في "حياة الصورة وموتها" تفرض عولمتها الثقافيَّة.  
على مفهوم الثقافة في كل ميادينها الكتابيَّة، فتحولها إلى تقنيات رقميَّة، بسبب ما تدعيه بـ "عسر القراءة مقدمة قصيرة جدّاً لماغريت جيه سنولينج" لهذا نلمس أن عصر المعرفة القائمة على الصورة قد استبدَّ في ما نجده من أن "الثقافة والتحول الرقمي لباميلا شرابيه" قد شاع في أنحاء المعمورة، وبات الكتاب مهدداً بالخطر في انحساره القرائي في أعرق البلدان العريقة في المعرفة الآتية من الكتاب الورقي، ولعل الخوف من وصول الجفاف القرائي إلى منتهاه بالقضاء على عالم القراءة بواسطة الكتاب ومجيء عصر الصورة التي لها مساوئ وسقطات هائلة قد حفّز "الأقسام الفاعلة لجون ف وزغن" إلى المسارعة في بناء ثقافات للتميز  تعزيزها في البرامج الأكاديميّة. بيدَ أن الصورة مضت إلى تعميق أصولها الثقافيّة في أخطر أماكن ما كان بمقدور الكتاب بلوغها بسبب احتكاره من قبل طبقة المثقفين الذين تصوروا أنّهم نخبة بإمكانها أن تقود العالم إلى التطور الحضاري، لكن الصورة لم تمضِ إلى ما مضت عليه الكتابة، إنما اعتمدت على وسائل التواصل الاجتماعي، والانخراط في الشعبيات وتسطيح الثقافة، باعتماد ثقافة اليوميات و "نظام التفاهة" التي قال عنها لآلان دونو حول تعاملنا مع الفنانين. والآن، يمكننا أن نفهم  بطريقة أفضل لماذا يفرض على الفنانين العمل وفقاً لأهداف السوق أكثر من الأهداف المرتبطة بإبداعاتهم الفنيّة.