حبيب السامر
فنانة تعشق الطين.. الفرشاة، والألوان المختلفة، تتشمم عطر مدينتها بكلِّ زواياها عبر لوحاتها التي تعكس حياة ناسها، وترصد حركة النساء والانفعالات واللحظات المنزليّة، والبوح غير المحكي للوصول إلى المشاعر عبر تكوينات تخرج من دائرة الخط الواحد، لأنَّ الفنان بحدِّ ذاته له القدرة على التجدد باستمرار والتجريب عبر مسارات يخوضها ليتشكّل بذلك العمل الفني الذي ينتقل إلى مرحلة أخرى نحيله إلى مجال الاختلاف والتجديد إلى مجال التجدد عبر منحوتات من الخزف والنحت والرسم، مع ضرورة الاسترخاء في بلورة عملها الفني بحسب قول الفنانة الأكاديميّة جنان محمد التي تخرّجت في جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة 2010 تخصص بالرسم- ولها في مجال الكتابة "الابستيمولوجيا المعاصرة وبنائيَّة فنون ما بعد الحداثة، و "فنتازيا الأمكنة"، تنقلت في معارضها الشخصية ما بين بابل 1987، بغداد 1992، البصرة 1997، بيروت 2013، وكان معرضها الأخير "هن" في البصرة 2021 الذي تقول عنه: "استغرقتُ العمل على منحوتاته ثلاث أعوام قبل إقامته، مارسته بشغف الاكتشاف ومتعة الترقّب، كان تجربة الطين، تلك المادة الحيوية التي فتحت لي مسارا جديدا لاستكمال تجربة الرسم في جزء معين منها، لنقل الكائن من سطح اللوحة المحدد إلى فضاء أكثر انفتاحا، والانهماك بالعمليات التقنية للخزف ومراحله المتعددة والتي تتطلب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً، ابتداءً باكتشاف حرية تشكّل حركة الكائن وإيماءاته مع ليونة الطين وطواعيته، وتحوله في المرة التالية إلى فخار، ثم في الثالثة إلى خزف، وهذه المرحلة الأخيرة هي التي اسميتها بمتعة الترقب، لأنّ اللحظة التي ندخل فيها الشكل النهائي الملوّن إلى فرن الحرق ستحفّز اللهفة بترقّب ما سينتج عنه من تداخل لوني عند إخراجه".
وتتابع: استمرَّ هذه الشعور منذ أول منحوتة قمتُ بتنفيذها حتى آخرها وبلغ عددها 26 عملا، لتنتهي في معرض بعنوان "هُنَّ". ويصور من خلال مجموعة نساء، مشاعر أنثويَّة غير محكية تفصح عنها إيماءات والتفاتات وتعبيرات في الوجه أحيانا، وأحايين أخرى بلغة الجسد.
وتشير الى أنّه في عرض مشهدي يتفاعل مع الفضاء المفتوح للبيت التراثي، وهذه التجربة لا يمكن أن تتوقف عند ذلك، لأنَّ التجارب تتجدد دائماً بمحاولة لاكتشاف الجديد، لذا فأنا أتهيَّأُ لمعرض آخر للنحت الخزفي قد يكون مشابها للأول في موضوعه ولكنه مختلف في تقنياته ونتائجه.
وتعتقد محمد وبشكل جازم، أنه عندما يمتلك الفنان وعياً متحرراً في تنظيم معرفته بما حوله من الأشياء فسيكون بإمكانه، أولاً أن يكون بارعاً في صياغة موضوعاته، وثانياً سيمنحه ذلك قدرة على تحويل مرسمه إلى مختبر تجارب. لأنَّ التجارب المتعددة تمنح الفنان خبرة في كيفيّة البحث عن التجديد. ربما يلتزم الفنان بموضوع محدد يرافقه لسنوات طويلة ولكن بإمكانه أن يغير من طرق تقديمه سواء بتقنيات أو مواد مختلفة، وهذا سبب مهم ليحقق الفنان تجدداً واستمراريّة.
الفنانة لا تؤمن بأنَّ الممارسات المتعددة في الفن هي التي بإمكانها أن تحقق نماذج مغايرة، وتقول: أشتغل على تنوع التقنيات، وغالباً ما تكون المرتكز الرئيس لي، ليس بقصد الاختلاف فحسب، إنما لأنَّ هاجس التجريب الذي يرافقني منذ فترة طويلة، يحقق لي المتعة في العمل الفني. فضلاً عن أنَّ ما رسمته سابقاً من لوحات بألوان مائيَّة، وأخرى زيتيَّة، أحاول الآن أن أزجَّ بإضافات متنوعة على سطح اللوحة (أقلام ملوّنة، أحبار، تلصيق، بورق الجرائد أو قطع القماش) مع ممارسات بسيطة سابقة في النحت على الخشب. وآخرها كانت تجربة النحت الخزفي.
ولكن، كيف تنظرين إلى الذاكرة الثقافيّة والفن العراقي، وما هي أبرز المحاور التي تُحيلنا إليه الفنانة جنان محمد، وما الغاية منها، وهل هي مرهونة بحقبة زمنيّة محددة؟
تقول إنَّ: الذاكرة الثقافيَّة تلعب دوراً مهماً في بناء وتوحيد واستقرار هوية مشتركة تمتدُّ عبر أجيال عديدة. ولكن هي بحاجة إلى مؤسسات ثقافية من أجل الحفظ وإعادة التجسيد، عندما نحيل الموضوع إلى الفن العراقي فهذا يتطلب البحث في الكيفيَّة التي تتفاعل بها الذاكرة الثقافية مع ذاكرة الفنان الفرديَّة والجمعيَّة من خلال إعادة إنتاج الماضي وتركيبه من جديد، وهذا لا يتحقق إلا بوضع قضايا الفن ونتاجاته في أفق إعادة تركيب الزمن الثقافي من جانب وأفق التكوين الجمعي للهوية من جانب آخر. كما ركّزت على تشخيصات الذاكرة الثقافيَّة في الفن وكيفيَّة تفعيل الماضي التراثي، والأمكنة، والماضي الذي يعتمد على السرد والحكايات، بدءاً بمرحلة الأربعينيات والخمسينات والستينات من القرن العشرين وبتسليط الضوء على الفنان جواد سليم "كذاكرة فرديَّة" تمكن من تفعيل الماضي التراثي عبر استحضار مصورات الواسطي التي كانت في حينها تاريخاً مغيّباً عن أرشيف الفن العراقي، ولكن باكتشافها تمكن من إعادة إنتاج ذلك الماضي في ذاكرته الفرديّة وأيضا في ذاكرة المجموعة عندما أسس جماعة بغداد للفن الحديث. مروراً بالمحاور الأخرى بكيفية تمثيل الأمكنة سيموطيقيا كما فعل جواد سليم أو رافع الناصري، وصولاً إلى محور استحضار الماضي الأسطوري او المطلق في مجموعة أعمال الفنان كاظم حيدر "ملحمة الشهيد" وبعض أعمال الفنان
ماهود أحمد.