جمال العتابي
لعلَّ أول ما يثير الانتباه في تجربة الفنان ضياء مهدي هو هذا التنويع بين الرسم والنحت، الذي لم ينقطع عن ممارسته طوال مسيرته الفنيّة منذ تسعينات القرن الماضي، أكد خلالها عمق انتسابه الى عوالمه الحميمة، ورسّخ فيها أداءه وامتلاكه لأدواته الفنيّة، تنوّعت مهاراته في التعبير، كما خاض التجريب في الأساليب الفنيّة الحديثة. لوحته ضاجّة بهذه المكوّنات المتسربلة بإيقاعات اللون والأشكال، تتحول إلى نص دلالي زاخر بالعوالم تأخذنا إلى شموليتها وتداخلها. وفي النحت على الخشب يتماهى ضياء مع الخامة، يتحسسها لأنّه يعرف أسرارها ويدرك خصائصها بعمق، لا يخضعها لشخصية فنيّة اصطنعها، إنّما يوفق بين جوهرها ورؤاه الفنيّة، ليجعلها أقرب في التعبير إلى لغة العصر، فهي خامة ذات دلالات رمزيّة أجاد التعبير من خلالها.
قام مهدي بتأكيد اتجاهه في الرسم الذي بدأه بمحاكاة أعمال أساتذته، تلقاها بفعل التقليد لينتقل إلى أشكال شبه تجريديّة، فبدت الشخوص أشبه بكتل ورؤوس بعيون مفتوحة من خوف، كما ازدادت سكوناً، لم يكن ذلك إلا نمواً تشكيليّاً تحت ضغط اختيار هذه الأشكال ومعايشتها.
مهدي متوائم مع الفنانين من الأجيال المختلفة، إذا ما أبصر في أعمالهم نزوعاً نحو الأصالة، وبما يعزز الروح والقيمة والحرارة التي تنبع من حياته الداخلية الخاصة، وما تنبض به علاقات اللون والمساحة والخط من تناسق وتماسك، بعد أن عرف طريقه واكتشف أسلوبه في التشكيل، فامتازت أعماله بالصدق، لا بالنقل، وبالإيحاء لا بالشرح والتفسير، أما الالتزام فينبع عنده من داخل الفنان لا من قوة خارجة.
في معظمها إشارات إلى انعطاف في طبيعة المفردات المستخدمة والألوان التي تحوّلت الى أصوات خافتة أو متناقضة مع بعضها، تدخل ضمن فضاءات عمله التشكيلي وانشاءاته الرصينة بدلالات الأعمال التي أنتجها ضياء المتصف بالهدوء، مدركاً لذاته ولذوات الآخرين. إنّه يرسم بوعي مسبق وتحدٍّ صارم للقواعد والضوابط الكلاسيكيّة، ليقدم للرائي والمتتبع تركيبة معقدة من الرموز والعلامات السميائيّة المتداخلة، التي تحتاج جهداً بليغاً لتأويل شفراتها المركبة، وهذا ما جعله يراهن مع سبق الإصرار والترصد على متلقٍ ومتابع واعٍ بالمكونات البصريّة. كان يسعى إلى تحرير الأشكال من واقعيتها المشلولة، أو المكبلة في التزاماتها الاجتماعية، فيذهب إلى التقصي عن فكرة الأشياء وتمثلها بحريّة في حركة الكتل والخطوط والألوان.
وبتحولات الفن التشكيلي، بمفاهيمه وأساليبه. فأقام أعماله الفنيّة على أساس هذه المفاهيم الجديدة التي منحته ثقل الفنان المتمكن من أدواته، وفي كل أعماله دلائل بصيرته التشكيليّة النفاذة التي تمتزج فيها الحاسّة النحتيّة مع قوة التعبير، في أسلوبه يجمع بين الانطباعيّة والتجريد. والكل يخضع للقوانين الجماليّة.. قوانين الكتلة والتوازن والتوافق، مع مراعاة التشريح من دون مبالغة في النسب.
وهكذا نجح في إخضاع خاماته الصلبة واللينة لمقتضيات التعبير الجمالي. منذ بداياته الأولى كان مهدي حريصاً على تمثل العلاقة الإنسانيّة السحريّة بين الرجل والمرأة، كثيمة جوهريّة في أسلوبه الفني، إنّه يسعى لاكتشاف حقيقة الإنسان في العلاقة بين تكوينه الداخلي ومظهره الخارجي. إنَّ عالمه ليس مرئياً على الدوام، إنّما يحتاج إلى قوة حدس خاصّة حتى يزيح الحجاب عن ذلك العالم غير المرئي - عالم النفس الداخلي - هو ما يمكن أن ينقل الرسام إلى خارج عالم الرسم، لكنّه لا يريد في إطار اللوحة، إلا أن يبقى رساماً، فهو لا يجد للتعبير عن حالة الانفعال النفسي إلّا العنف في الألوان، ويعتمد كثيراً في بناء لوحاته على التضاد الدرامي بينها.
والأشكال الإنسانيّة في أعماله تزداد وضوحاً، وأصبحت أكثر حرية وحركة، لم تعد الأجسام كتلاً من حجر، بل صارت أكثر ليونة وانحناءً في النحت الخشبي على وجه الخصوص. وعندما يكون الفنان حزيناً أو يائساً فالوجود كله قاتم الألوان، حتى لو كانت الشمس ساطعة، لهذا تزداد التعبيريّة ظهوراً في أوقات الأزمات أو القلق الروحي، لذا حاول ضياء مهدي أن يكتشف مكنونات الجمال في عالم يعمّه التخبّط والفوضى. هكذا كانت أعمال النحت على الخشب ومادة الثرمستون "رؤس، أجساد بأيادٍ مقطوعة" أعمالاً مميزة لعصرنا الحاضر، أدّت دورها جماليّاً ورمزيّاً، إنّ كل جزء منها يكاد ينطق أو يصرخ. إنّه مولع بفكرة التطابق، أو السالب والموجب التي يحاول تحقيقها على المستوى الفلسفي في النحت، لكنّه شديد التأثر بالفنان العالمي "جياكوميتي" وما يزال أمامه الطريق واسعاً ليحقق الكثير.
مهدي غير مفرط بالذاتية، تأثر بأساتذته، وحاول أن يتمثّل تجارب جواد سليم في النحت، وشاكر حسن آل سعيد في الرسم، يجد في أبحاثهم التشكيليّة مبرراً لنضج تجربته الفنيّة بشتى الأحاسيس والانفعالات التي تغلي تحت الاشكال وتضطرم بها الألوان. لقد استفاد مهدي من العناصر والأسس التشكيليّة في الفن العراقي في مزيج متجانس بين الرسم والنحت، وأن يستفيد من الأساليب الحديثة في التجريد مع الاختزال المكثف، وإثارة الإحساس والانفعال بمعاني أعماله التي تمنح المتلقي فرصة التأمل، فضلاً عن الاستمتاع ببهجة الألوان المبهرة.
مهدي لا يعرف الجمود والتزمت، وغير بأسلوب محدد ولا وسيلة بذاتها، ومن خلال الخامات المختلفة يستطيع أن يؤدي دوره ويكون صادقاً وأصيلاً. ولعل ميزته أنه يقدّم الجمال المطلق بمضامينه الإنسانيّة غير المباشرة، بل يرمز إليها. ساعياً إلى التوفيق بين الوقائع أو الانطباعات أو الأحاسيس المتضاربة، أعني بكيفية تمكّن المرء من أن يواجه العالم من دون أن يغرقه طوفان الظواهر الطبيعيّة، الوجود لا بدَّ أن يعاد تشييده كل ساعة من قبلنا.
إنّ مهمات الفنان أن يرتب فوضى العالم المرئي في أنماط ورسوم توحي بالمعاني والأحاسيس المختلفة، لذا كرّس ضياء جزءاً كبيراً من أعماله في تجسيد هذه الرؤى "هتك الحجب، وتعرية النفوس بجسارة وقوة"، إنّه يقودنا إلى أكثر زوايا القلب الإنساني اضطراباً وقلقاً. إنّ عالم الفنان كما يراه ضياء هو اكتشاف حقيقة الانسان. الاعتراف بتفوق الفنان ضياء مهدي لم يتحقق بشكل عابر، انما جاء عبر اجتهاد ومثابرة ومواجهة مع البعض الذي يحاول في منعه من المشاركة والحضور وإبعاده عن الأضواء. رغم ذلك تزداد تجربته ثراءً وتتعمق مضامينها.
يعتمد الفنان في بناء لوحاته على التضاد الدرامي بينها