تساؤلاتٌ عن مستقبل الكتاب المطبوع

ثقافة 2024/10/09
...

 صلاح السيلاوي 

نغادر يوماً بعد آخر، أيام الكتاب المطبوع، تأخذنا الصورة إلى عالم مختلف تماماً، نبتعد عن رائحة الورق، لم تعد تلك الرائحة رفيقة أحلام القراءة وتأملاتها، صارت الشاشات على اختلاف أحجامها وأشكالها وقدراتها الألكترونيّة بديلا عن تلك الرائحة الموغلة في ذاكرة القراءة،  نحن أمام عالم جديد على مستويات المعرفة والقيم والعلوم المتنوعة، أمام كل ذلك، أين سيكون الكتاب المطبوع؟، أين سنجد شكله وأثره بعد عشر سنوات مثلا؟، ونحن نسير باتجاه تطور ملحوظ في شكل الكتاب الإلكتروني وسرعة انتشاره؟.كأننا أمام بوابات واسعة لوداع الكتاب الورقي، نلوّح فيها لذكرياتنا معه، لأحلامنا مع أفكار كتابه، لتفاعلنا مع ما فيه من وجع أو فرح أو فكرة غرائبيَّة.  

إنّنا نودع اعتياد القراءة التي كانت مرتبطة بأمكنة متعددة، حيث تمتزج رائحة الورق برائحة الشجرة التي تجلس تحتها في حديقة بيتك، أو حين تمسك كتابك المفضل متمشياً في الطريق الى العمل، أو إلى صديق تحدثه عن آخر ما قرأت.

العالم يتغيّر سريعاً، ولكنّه يفرض أحكام تغيره على أساليب التعاطي مع كل شيء وبخاصة الكتاب.


قراءة بالبصر واللمس والشم

الناقد أحمد حسين الظفيري، يرى أنَّ التسارع الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج التلفزيونيّة سحب عيون وعقول الجميع نحو الشاشات الكبيرة 

والصغيرة. 

وأشار الظفيري بإجابته إلى أنّ المناهج التعليميّة والتربويّة تحولت لمرئية ومسموعة، لافتاً إلى أن المشكلة تكمن في فقداننا لتلك الحميميَّة في ملمس الورق، إذ بدأت أصابعنا تهجر القلم الذي يخلق نوعاً من التواصل بين حركته وبين التفكير 

العقلي.

وأضاف مبيّناً: كما أنَّ حركة القلم وملمس الأوراق ينمي الحواس البشريَّة الأخرى ويجعلها جزءاً من عملية التفكير، فحين تقرأ بكتاب فإنّك تقرأ بحاسة البصر واللمس والشم أحياناً، وهو ما يعزز قوة الذاكرة على الحفظ 

والاستذكار.

إنَّ الكتابة التي ارتبطت مع بداية التفكير المنطقي للإنسان والتي طورها الإنسان لاحقاً لتصبح صورة بدل الحروف تدل على أن لدينا جنوحاً نحو التطور، وعدم الجمود، ومنذ أنْ دخل الإنترنت حياة البشر وغيّر آليَّة التواصل بين أفراد المجتمعات، أصبح العالم في سابقه القريب بمثابة قريةٍ كونيةٍ، أو صار لا يتجاوز مساحة الشاشة الذكيّة، ونتيجة ذلك اصطلح علماء الاتصال على هذا التغيير بالإعلام الجديد، أو الإعلام البديل أو العالم الافتراضي، والذي حلّ ليخلق عالماً موازياً للعالم الواقعي، بيد أنَّه عالماً افتراضياً تخلقه مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف خواصها وقدراتها الهائلة، 

والتي أدّت وظيفةً اتصاليةً جديدةً لأبناء الشعوب المتخلفة، واستطاعت أنْ تقدّم منابر اتصاليّةً مجانيةً تسمح لمستخدميها أداء وظائف الصحافة بصورةٍ 

يسيرةٍ ومتحررةٍ، وذلك ما حقّق بدرجةٍ كبيرةٍ مفهوم "الفوضى الخلّاقة" وعزّز بشكلٍ ملحوظٍ الإمكانات الذاتية أنْ تعبّر عمّا في داخلها من رؤى، وطروحات، وحقائق تكمن في دواخل البشر، وكذلك تطرح نماذج جديدة في العالم الافتراضي تحاكي العالم الواقعي وباختلافاتٍ 

متعددةٍ.

وقال الظفيري أيضا: كل ذلك أدى بطريقة أو بأخرى إلى هجران الكتاب الورقي وعدم التعامل معه لا سيما من الأجيال الجديدة، وبذلك تغيرت طبيعة استحضار المعلومة من محاولة التذكر إلى الاعتماد على وسائل البحث، وأخذ الذكاء الصناعي يحل محل العصف الذهني وطرح الأفكار، وهي عملية - أجدها- بالغة الخطورة على الدماغ البشري بصورة عامة، لأنّه بات حبيس ما يمرر له عبر تلك الشاشات الصغيرة من معلوماتوأفكار.

لكن تبقى للكتاب الورقي أهمية في حفظ الكتابة بطريقة أكثر موثوقية -أحيانا- فهو لا يحتاج للطاقة التي تشغل الأجهزة الالكترونية، والتي قد تنقطع لسبب أو لآخر، لا سيما أن الإنسان بدأ يستغل التكنولوجيا في تطوير آلته الحربيَّة التي يحارب بها أبناء جنسه، ولذلك فإنّ اعتماد الإنسان على الانترنت يبقى غير مضمون بطريقة أو 

بأخرى.

أما الكتاب الورقي فيمكن اقتناؤه والحفاظ عليه، وأجد أنَّ المستقبل سيعيدنا نحو الكتب الورقيّة، ولهذا ما زال الإنسان حريصاً على طباعة الكتب الورقيّة واقتنائها. 


يحافظ على خصوصيته وأهميته

الشاعر محمد حسين الفرطوسي، أشار في إجابته إلى أن تطور الحياة وتحولها نحو عالم الصورة يجعل مستقبل الكتاب المطبوع رهيناً لمستوى هذا العالم ومدى احتياجه أو اعتماده على الكتاب المطبوع، لافتاً إلى أن الكتاب الالكتروني في تطور مستمر خاصة وأن العالم يسير بخطى متسارعة نحو اختصار الزمن وابتكار كل ما يمكن أن يسرع من الوصول الى المعلومة عبر أساليب مختلفة ومنها ما يمكن أن يكون عبر صناعات جديدة تسهم 

بذلك.

أما في ما يخص الكتاب الورقي فإنَّ الفرطوسي يؤكد حفاظه على خصوصيته وأهميته حين قال: أعتقد أن الحاجة للكتاب الورقي مهمة فهي في أقل تقدير تمثل حاجة توثيقيّة، إذ إن المكتبات الالكترونية الهائلة التي تحتفظ بملايين الكتب على مستوى العالم يمكن أن تزول بضغطة زر، أو يمكنها أن تكون معرضة لهجوم ألكتروني، خاصة وأن الحروب الالكترونية صارت جزءاً لا يتجزأ من الحروب في عالمنا 

الجديد.

انطلاقاً من كل ذلك أجد أن الكتاب المطبوع هو الكتاب الأكثر أمناً على مستوى الحفاظ على مضامينه، لذلك لا أرى أن الكتاب الورقي يمكن أن ينتهي بسهولة امام تطور عالم الكتب الالكترونية. 

صحيح أنّنا نعيش مرحلة جديدة من تأسيس قرّائي مختلف، إذ بدأ القارئ من أجيالنا الجديدة التعود على تقاليد مختلفة عن تقاليد أجيالنا في ما يخص القراءة، فالقراءة على الهاتف أو الحاسبة أو من خلال الانصات إلى الكتب المسموعة تؤسس تقاليد مختلفة جذرياً عن تقاليدنا القرائيّة المرتبطة بالمطالعة المتجولة في الطرق وأنت تنتقل من محافظة إلى أخرى أو في الحدائق 

العامة.

إنّها حياة جديدة تفرض عوالمها وطقوسها ولكنّها برأيي لا تستطيع أن تقضي تماماً على الكتاب المطبوع.

 

شهيَّة القراءة 

أعادنا الدكتور علي متعب جاسم إلى مشاعر القارئ العراقي الأول  وكيف كان ينظر أو يشعر حين كان يقرأ على اللوح الطيني، وماهية مشاعره حين تحوّلت طقوس القراءة إلى شكلها الورقي، قال جاسم عن ذلك موضحا: في المرحلة التي تحوّلت فيها الكتابةُ من كتابة على اللوح الطيني إلى الورق أتخيّلُ أن من عاصر الكتابة الأولى والكتابَ الأول امتعض كثيرا. إنّ مدركاتهِ الحسيّة والوجدانيّة تعلّقت بالصورة الأم والأصل للكتاب. فقدَ شهيّةَ الطين وحفْر الكلمات ونظامِ الأسطر، أدرك- ربما- أن العالم يسير إلى خراب أو أن شيئاً سحريّاً يقبض على حافة العالم.. وكان عود الخشب أول قلم يسكبُ صوته بصمت حافراً قلبَ الطين ثم وفي اللحظة التي جفَّ بها حبر أقلام القصب أو الريشة التي اعتنى بعضهم بها حد الولهِ ليكون قلما آخر.. الحبر السائل أو الحبر الجاف أو أزرار الكيبورد على جهاز الحاسوب.. تُرى ما الذي كان يمكن أن 

يكون؟. 

بعيداً عن الاستطراد، ثمة عوامل ثلاثة تضغط باتجاه الكتاب الإلكتروني وتتضاءل أية إشارة إيجابية للتخفيف من وقعها، وهي: العامل الاجتماعي والعمل الوجداني والعامل الاقتصادي. الأول يستوعب المتغيرات ببطء ولكنّه الأقدر على النفاذ، هو دائما على تضاد مع العامل الوجداني بسبب خضوع الاثنين للمنطق الأزلي للحياة، كلّ جيل ينشأ ليستوعب المتغيرات اللانهائيّة والتحولات المستمرة في المنظومة الاجتماعيّة، يؤمن بها ويدفعها باتجاه مساحة أوسع فتضيق مساحة الجيل الأسبق وتتحول إلى غمامة زمنيّة تسكن الذهن وتعتاش على 

المخيلة. 

وأضاف جاسم قائلاً: أما العامل الاقتصادي فإنّه العصب الأكيد الذي يحرك العالم، يمكن أن نتحدث عن عشرات المزايا التي تصون هذا العصب بما هو معروف للجميع من سرعة توزيع الكتاب إلى سهولة الخزن وتعدد برامج القراءة وتنوعها إلى التقليل من آثار التلوث في مصانع الورق وغير ذلك. وليست المسألة فيما بعد  تقف كثيراً على تفضيل نوع على آخر، في مثل هذا الحال يكون لكلّ نوع تجربة تضيق أو تتسع، وصلة تُعاش بإحساس دافئ أو إحساس خامل، وما قامت به الآلة في زمن الحداثة بوصفها منتجة للمركزيّة البشريّة، استُبدلت في "ما بعد المركزيّة البشريّة بربط الذات بالآلات بشكل أكثر حميميّة من خلال المحاكاة والتعديل المتبادل". 

كما تقول روزي بريدوتي وقراءة الماضي ربما ستشهد تباطؤا في ظل سيادة نظريات قراءة المستقبل في هذه الألفيّة واستخدامها في الممارسة العمليّة.   

سيكون كلُّ ماضٍ أثراً جميلاً نحنُّ إليه ولكن لا نتعايش معه.. ومع أن عمر الكتاب الإلكتروني لم يزل طفلا إذا ما قسناه بعمر الكتاب الورقي، وإننا من الصعب أن نتكهن بقدرته على مقاومة الشيخوخة، حتى إذا افترضنا وجود أجنة لم تظهر بعد إلا أن تجاور الصيغة الورقيّة إلى الصيغ الأخرى قد لا يكون بالتوازن الذي نراه الآن.. بعد سنين ربما سيكون الورق الأصفر أو الزيتي مُمَثِّلا لمرحلة مهمة، وسيقُتنى بوصفه 

أثراً لا كتاباً. 


المطالعة متعة الحريَّة 

الشاعر عبد الأمير محسن قال: ما انتشرت الثقافة الحديثة إلا حين اخترعت المطابع والورق، وما تلاقحت ثقافات العالم القديم بالحديث إلا عن طريق الورق في عصور بعد التدوين.

الكتاب لا يمنحك المتعة ما لم تكن حراً أولاً في التوغل في جاذبيّة عصره وزمن طباعته وفي تقليبه بين يديك لاحتواء بدايته وخاتمته ومعرفة محتواه قبل القراءة ثمّ بامتلاكه ليكون معك صفحاتٍ تتفاعل معها بقلمك وملاحظاتك وأنت تدوّن ما تحب أن تستدركه أثناء المطالعة وبعدها.

وثانياً، للكتاب جاذبية لا تملكها أنواع القراءة الأخرى، حيث نكسب الوقت الحيوي الخاص بوظائف الدماغ المتفاعلة بين الكتاب والنشاط الذهني الناتج عنه في اختيارك أوقاتاً أسهلَ وأكثرَ راحة داخل بيتك أو خارجه جالساً كنت أو مستلقياً فيكون التواصل الذي يمنع الملل بأوثق حالاته بل ويزيد الفضول في استلهام ما تقرأ.

 لعلّنا ثالثاً نقع في سحر الكتاب الذي لا يقاوم حين يكون أمامنا في رفوف استعمالنا المكتبي اليومي حاجة نفسية وتعوّدا نبيلا أقرب ما يكون رفيقا حاضرا يتقبلنا ونتقبله بعيداً عن كونه حاجة مختفية داخل آلةٍ لا تمنحنا إلا قيودا وفروضا خاصة تفتقر الحرية 

والحياة.

وأضاف محسن بقوله: حين نتحدث عن تأثير الكتاب الالكتروني في زمن غياب الكتاب الورقي فإنّ ذلك أراه يتجلى باتجاهين مختلفين فالأديب الحر لاغنى له عن رفيق ورقي يرافقه في حلّه وترحاله ويكون مصدر شرف له لو كان من مؤلفاته يفتخر بتوزيعها لأصدقائه ليكون في حركة الساحة الأدبيّة متحركا لا ساكنا تسير بين جنبيه روح الأدب (طازجاً) بأيامه الثقافيّة!، ولا بد للمثقف أن يكون ملمّاً بتاريخ الكتاب وسنوات ظهوره وأسباب طبعه وملابسات تأثيره في ذلك الوسط أو غيره ليكون تاريخا آخر للثقافة الحقيقيّة، وتلك المعلومات لا نجدها إلا في صفحات الكتب التي نتداولها بين أيدينا وأحيانا هي التي تأتينا لو توفر الورق المطبوع حولنا، وتلك المعلومات هي البيئة التي تحيط المثقف وتوجهه نحو الانتماء والاختيار وطريق الحياة وسلوكه وثقافته الخاصة، وهذا ما اسميه بالثقافة المكتسبة المجانية لما للكتب الورقية (لو انتشرتْ) من تأثير مباشر على القارئ، وهذا ما لا نجده في مواطن أخرى أبدا.

أمّا الاتجاه الثاني فللكتب الالكترونية بعض الترحيب فقط فيما لو عجزنا عن العثور عليها ورقاً أو ارتفع سعرها جداً، وربما هي للباحثين المتخصصين أكثر فائدة من عموم المثقفين، كونهم لا يهتمون إلا بهدف محدد

 فقط!.