بهاء محمود علوان *
تتكون الرواية الرسائلية من سلسلة من الرسائل الخيالية مرتبة ترتيباً زمنياً، ولكنها يمكن أن تحتوي أيضاً على إدخالات يومية أو مقدمات أو كلمات لاحقة بالإضافة إلى تعليقات مؤقتة. ويمكن أن تأتي الرسائل فقط من خلال الراوي بضمير المتكلم (أنا)، وتكون موجهة إلى شخصيات أخرى، ولكنها يمكن أن تحتوي أيضاً على مراسلات بين شخصيتين أو أكثر. ولا ينبغي تجاهل أن هذا الشكل المُميز من السرد هو اختيار المؤلف. إذْ لا يجوز بأي حال من الأحوال المساواة بين المؤلف وكاتب الرسالة؛ ويجب دائماً مراعاة التمييز بين الشخص الحقيقي والشخص الذي يكتب الرسالة.
أعادت روايات صامويل ريتشاردسون، التي دفعت إلى الإصلاح الأخلاقي، تنشيط هذا النوع من الأدب في منتصف القرن الثامن عشر. الرواية التي تتحدث عن باميلا، التي تعرضت لاعتداءات على فضيلتها من قبل رب عملها، وجدت وسطها المناسب في مجموعة الرسائل: لقد تابع القارئ مجرى الأحداث مع مرسلي الرسائل، الذين، دون أن يتمكنوا من التدخل، للخوف من أن البطلة قد استسلمت مرغمةً لرغبات الرجل البغيض.
انفتحت روايات النصف الثاني من القرن الثامن عشر على هذا النوع الأدبي إلى الحد الذي سمح فيه التصوير الذاتي الحميم بإلقاء نظرة ثاقبة على العمق النفسي لكتابة الذات بثقة. يمكن تحويل الحبكة إلى الداخل من خلال الرواية الرسائلية. وفي الثقافة الألمانية برع غوته في كتابة هذا النوع من الروايات. كما أن أول رواية رسائلية باللغة الألمانية كانت قصة الآنسة (الأنسة فون لاروش) للكاتبة صوفي فون لاروش، والتي نُشرت عام 1771.
ونجدُ في الأدب الفرنسي رواية (The New Heloise) للكاتب جان جاك روسو. وفي القرن التاسع عشر، سيطرت السير الذاتية والخيالية على مجال الرواية الرسائلية. إن ما يميز الرواية الرسائلية هو أسلوبها السردي الذي يتطلع إلى الداخل: فالمشاعر والتقييم الشخصية لما تم اختباره موجود في ذروة الرواية؛ ولا يمكن قراءة الحبكة إلا من خلال الإدراك العاطفي للراوي بضمير المتكلم. ويبدو أن الفارق الزمني بين التجربة والخبر قد تم إلغاؤه، لأن التأمل فقط (أي الإخبار فقط) يلعب دوراً كبيراً في الأحدث. إن الرسالة الوهمية ليست مناسبة بشكل خاص للتعبير عن المشاعر فحسب، بل إنها توفر أيضاً مجالاً كبيراً للحرية اللغوية. إن إدخالات اليوميات والرسائل ليست مخصصة للجمهور العام، لذا يمكن لكاتبي الرسائل، اعتماداً على المرسل إليه، استخدام لغة يومية مجازية وسهلة الوصول إليها. يؤدي هذا إلى تعاطف جمهور القراء مع الشخصية وتنمية الشعور بالحميمية.
أحادية المنظور أو متعددة المنظور
إذا كانت مجموعة الرسائل الخيالية تأتي من يد كاتب الرسائل، فإن بنية الرواية توصف بأنها (أحادية المنظور). وهذا هو الحال، على سبيل المثال، في رواية يوهان فولفكانك غوته الرسائلية (آلام فيرتر1774)، والتي تتكون من 92 رسالة مقسمة إلى كتابين. تعود جميع الرسائل إلى الفترة ما بين مايو 1771 وديسمبر 1772، وهي موجهة بشكل أساسي من قبل بطل الرواية الرئيسي (فيرتر) إلى صديقه فيلهلم. ومع ذلك، فإن إجابات فيلهلم ليست في متناول القارئ.
إذا كانت مجموعة الرسائل الوهمية تصور نصوصاً من أشخاص مختلفين، فإن بنية الرواية توصف بأنها (متعددة وجهات النظر). وينطبق هذا، على سبيل المثال، على النسخة الحديثة لدانيال جلاتاور من رواية رسائلية (الخير ضد ريح الشمال).
إن الرواية الرسائلية هي شكل من أشكال السرد بضمير المتكلم يسمح للمتلقي بالانغماس بشكل مباشر وفوري في عالم مشاعر وأفكار الشخصية في الرواية. يجعل الكاتب المتلقي صديقاً مقرباً له ويسمح له بتجربة العمليات العقلية والحالات المزاجية الداخلية الأكثر حميمية للشخصية. وهذا يخلق شعوراً بالألفة والارتباط العميق والحميمية لدى القارئ مع الشخصية في الرواية.
إذا كانت الرواية تتكون من رسائل من عدة مراسلين، فسيتم تزويد المتلقي بمنظور مختلف عن الأحداث. ويتيح ذلك تمثيلًا متعدد الطبقات لسمات شخصية بطل الرواية الرئيسي بالإضافة إلى عمليات الحركة.
أصل وذروة الرواية الرسائلية
من الصعب تحديد أصل الرواية الرسائلية. وحتى في العصور القديمة، لجأ الكتاب والفلاسفة إلى شكل التمثيل في مجموعات الرسائل الوهمية. ومع ذلك، لا يمكن العثور على كتابات مباشرة لهذا النوع إلا من القرن الثالث عشر، على سبيل المثال المراسلات بين أبيلارد وهيلواز، المدرجة في كتاب (جان دي ميونج رومان) بين الاعوام 1270-1280، وكذلك الروايات الرسائل الأخرى المبكرة نصوص الشاعر الإسباني (جان دي سيجورا) (1548)، والكاتب الإيطالي لويجي باسكواليتو ليتيري أموروس 1602. بعد الانتشار الناجح لهذا النوع في القرن السابع عشر، وجد نجاحه الكامل وذروته في أوروبا في القرن الثامن عشر، وهو ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة الكتابة المعاصرة المفعمة بالحيوية. بين عامي 1740 و1800، نُشرت 700 رواية رسائلية في أوروبا.
انطلقت موضة الرواية الرسائلية الأوروبية من خلال نصوص المؤلف الإنجليزي صامويل ريتشاردسون: باميلا (1740)، كلاريسا (1748)، والسير تشارلز جرانديسون (1754). وصلت إلى ذروتها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. أثرت رواية جان جاك روسو الرومانسية عن سيرته الذاتية (La Nouvelle Héloïse ) في عام (1762 ) أيضاً على هذا النوع.
تحظى الروايات التي تثير المشاعر بشعبية كبيرة وتمثل فرصة رائعة لاستكشاف العواطف، خاصة بالنسبة للقارئات الإناث. ويتيح هيكل الرسالة التقارب المباشر مع الشخصية، وربما حتى نوع من التماهي مع كاتب الرسالة. بالنسبة لقراء رواية فيرتر للكاتب غوته، فإن الذكور هم من أصابتهم حمى فيرتر وبدأوا بتقليد أسلوب الملابس التي يرتديها فيرتر، ووصل بهم الحد لاتخاذ قرار الانتحار بعد قراءته، تماهيا مع بطل الرواية، مما أدى إلى منع الرواية لخطورة التقليد.
ومع ذلك، فإن رواية جوته الرسائلية (آلام فيرتر) تمثل ذروة مهمة في هذا النوع باعتبارها نصاً متماسكاً فنياً ومقدماً بشكل متسق. وتُعد رواية (الأنسة فون لاروش 1771) للكاتبة الألمانية (صوفي فون لاروش) وهي أول رواية رسائلية باللغة الألمانية، ممثلاً بارزاً لهذا النوع الأدبي.
المصدر:
- Gut gegen Nordwind (Daniel Glattauer, 2006)
- Die Leiden des jungen Werthers (Johann Wolfgang von Goethe, 1774)
* أستاذ الأدب الألماني في جامعة بغداد