د. باسم الأعسم
تعد الأمكنة أحد عناصر الأعمال الأدبية والفنية، على تباين أنواعها، وموضوعاتها، ومقارباتها، إذ تشكل الأمكنة أنساقاً فنية، وتعبيرية، تعزز سلطة الجمال والفن فيها، بقصد تمتين أواصر التلقي مع المتلقي، وما تنطوي عليه من أهداف فنية، وتربوية،واجتماعية،وجمالية، ومعرفية في الآن نفسه.
إن الأدباء المبدعين، كما المنقبين، يكتشفون الأمكنة، ويقدمونها للآخرين، قراء، ومتابعين، بهيئة صور متخيلة، ومثيرة للدهشة، والجمال، بعدما كانت ربما مقفرة من فرط وحشتها، وبلا لمسة جمالية، كالصحراء التي تستحيل بفعل رؤية المبدع إلى قصة، أو رواية، أو قصيدة رائعة، تستهوي القراء لجمالها، وتلك هي وظيفة المبدع، أن يكتشف الأنساق التعبيرية، والثقافية المضمرة، والباعثة على الفن، والذوق، والتأمل، في ثنايا العمل الأدبي،أ الفني المتخيل، أو الواقعي على حد سواء .
ومن البداهة القول : إن الفضل ليس للأمكنة مهما كانت، إنما الفضل لموهبة وخيال الأديب أو الفنان، وقدرته على إعادة خلق المكان في مختبر القصيدة، أو الأثر الأدبي، أياً كان، وإلا فإن الأمكنة قد تبدو متشابهة ورتيبة، لكنها تكتسب أهميتها، وتأتلق، بفعل خيال الأدباء .
إن تلكم الأمثلة وسواها، ترسِّخ حقيقة ناصعة، مؤداها : أن الأدباء، والمبدعين، مثلهم كمثل العظماء، يضفون على المكان سحره، وأهميته، وفرادته، بحيث يقترن وجوده المعنوي، أو الاعتباري، بأسماء الأدباء الخالقين له، بهيئة صور إبداعية، قل نظيرها، تبرز الهامش، وتعلي شأن المهمل، حتى يصبح حقيقة، لكن من صنع الخيال، والوجدان، اللذين مصدرهما الموهبة التي تخلق الأعاجيب .
وهذا هو شرط الإبداع عندما يقترن بالموهبة، ذات المخيَّلة الجامحة، والتأمل النقدي الخلّاق، فتولِّد الآثار الإبداعية، والفنية، الدالَّة على فسحة الخيال، وعمق الرؤى، وطبيعة المعايشة الواقعية، أو الافتراضية، على حد سواء،
وبفضل هذا المنحى الإبداعي المختلف، تفردت بعض المدن، والأعمال، والصور المبدعة التي أنتجتها أخيلة كبار الشعار، وأساطين القصة والرواية، والملحمة، والمسرحية، فخلدت في أذهان القراء، جيكور السياب، بل اقترنت البصرة باسمه، ودجلة الخير، كما تخيلها الجواهري، وداغستان رسول حمزاتوف، ولوكسومبورغ دوستويفيسكي، وسوريا نزار قباني، وأدونيس، والماغوط، والجزائر بأحلام مستغانمي، ومصر بطه حسين، ومحفوظ، وشوقي، وفيالق الأدباء، في مختلف الأمكنة، التي تتوافق شرطياً مع أسماء الأدباء المبدعين، الخالدين في ذاكرة الأجيال، مهما العمر طال، لأهميتهم، واختلافهم، وثراء منجزاتهم، فكانوا الرقم الأصعب في المعادلة الثقافية، عند مقارنتهم بالأدعياء اللذين يحيون بلا أثر دالٍّ على وجودهم .
إن هذا الزخم الثقافي والقيمي الكبير، الذي يمثله المبدعون في شتى صنوف الأدب، والفن، والفكر، يعد طاقة إيجابية، متدفِّقة، تعود بالخير، بما يعزز الشعور بالانتماء للأمكنة.
ولذلك نجد أن المؤسسات الثقافية، ذات العلاقة بالمشهد الحضاري، والعمراني، تحافظ على البيوت التي نشأ وترعرع بها المبدعون، فتستحيل إلى متاحف، إكراماً لما قدموه من منجزات تليق بهم، وبوطنهم، وتسرُّ الناظرين.
وضمن هذا السياق، سمِّيت بعض الأمكنة بأسماء الأدباء، الذين استحقوا الذكر، والخلود، وبمثل ما تحتفي الأمكنة بالأدباء، وتقترن بأسمائهم، فإن المبدعين، ينتمون بالفطرة إلى الوطن بوصفه المكان الأبهى، والأجمل، وتلك هي غريزة الانتماء، التي تسري مع الجينات لدى المبدعين، الأصلاء.