متغيّرات المشهد الانتخابي بين المرشّحَيْنِ الديمقراطي والجمهوري

قضايا عربية ودولية 2024/10/16
...

  جواد علي كسار


ثلاثة أسابيع أو أقلّ هي المدة التي باتت تفصل أميركا عن الانتخابات الرئاسيَّة، التي جرت أعرافها أن تتمَّ يوم الثلاثاء الأول من شهر تشرين الثاني من السنة الانتخابية. غالباً ما تشهد هذه المدة الحرجة، تصاعداً مكثفاً للنشاط الانتخابي للمرشحَين المتنافسين خاصةً في الولايات المتأرجحة، وسط حذر شديد وخطوات محسوبة لكليهما، خشية السقوط بما أسمتها المرشحة الديمقراطية الرئاسية السابقة ووزيرة الخارجية على عهد أوباما، هيلاري كلينتون بـ{مفاجأة أكتوبر»؛ وهي المفاجأة التي من شأنها أن تشوه حملة نائبة كامالا هاريس وتفسدها، على حد تحذير السيدة كلينتون، وقد أضافت في مقابلة مع برنامج «فايرينغ لاين» قولها نصاً: «ستكون هناك جهود متضافرة لتشويه صورة كامالا هاريس وإفسادها؛ تشكك بها وبالأمور التي تدافع عنها، كما بإنجازاتها».


زيادة في التأكيد استعادت كلينتون تجربتها الخاصة مع «مفاجأة أكتوبر» عام 2016م عندما انطلقت في وقت متزامن مع نهاية حملتها الرئاسية ضدّ دونالد ترامب، قصة مؤامرة «بيتزا غيت» وهي تتهمها بإدارة عملية الاتجار بالأطفال من قبو مطعم «بيتزا» واستغلالهم جنسياً، ما أدّى إلى توجيه ضربة كبيرة لفرص نجاحها بالانتخابات، وفوزها على غريمها ترامب، دائماً على حدّ زعمها. والسؤال هل ستتجدّد مفاجأة تشرين الأول (أكتوبر) خلال الوقت المتبقي من هذا الشهر؟ وإذا ما قدّر لهذه المفاجأة أن تحصل فعلى مَن تدور دائرتها، على كامالا هاريس أم دونالد ترامب؟

كتاب: أنقذوا أميركا
من الأعراف التي ارتبطت بحياة الرؤساء الأميركان بعد خروجهم من البيت الأبيض، إنشاء مكتبة باسمهم، ومركز للتفكير والبحث، ومجموعة زمالات دراسية جامعية باسمهم أو على نفقتهم. لكنَّ الأهمَّ من ذلك كله هو مذكراتهم، إذ كانت هذه المذكرات هي أشهر ما يتصدّر حياة رؤساء أميركا بعد انتهاء خدمتهم في البيت الأبيض، وهي تكاد تكون من أنفع ما قرأناه عن تجربة هؤلاء الرؤساء إبّان العقود السبعة الأخيرة.
أضف إلى القيمة المعرفية وما تبرزه هذه المذكرات من معلومات وخصائص شخصية وغير شخصية عن القرار وتجربة الحكم الأميركي؛ هو الجانب النفعي المالي، إذ تعدّ سوق مذكرات الرؤساء وكتبهم ومؤلفاتهم (خاصة ما حصل للرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون والديمقراطي باراك أوباما) مصدراً مالياً ضخماً لهؤلاء الرؤساء ومنبعاً مهماً من منابع الدخل والثراء، فهي تُباع بالملايين وبأسعار مرتفعة جداً.
على وفق سجيته كتاجر يُتقن منطق المنفعة وحساب الأرباح، لعب المرشح الجمهوري ترامب على هذا الوتر بمهارة، عندما أعلن نهاية شهر تموز الماضي أنه سيقدّم للجمهور الأميركي كتاباً، هو: “الأفضل على الإطلاق” بعنوان: “أنقذوا أميركا” يأتي مكملاً لكتابه السابق: (رحلتنا معاً) وكتابه الآخر: (رسائل إلى ترامب). لقد جاء في وصف الكتاب بحسب موقع ترامب (نقلاً عن: C.N.N) أنه الأفضل: «خاصة في ضوء حقيقة أننا نعيش الآن في أمة فاشلة، لكنها لن تفشل لفترة طويلة. سنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى قريباً» بحسب نصّ ترامب.
كتاب: «أنقذوا أميركا» بحسب دعاية موقع ترامب ومناصريه في شبكات الإعلام، سيقدّم: «نظرة لا مثيل لها عن السنوات الأربع التي قضاها في منصب رئيس الولايات المتحدة، بالإضافة إلى رؤيته المقبلة». بيدَ أنَّ ما حصل مع نشر الكتاب فعلاً هو طغيان مفارقتين على المحتوى والمضمون؛ الأولى هي صورته على الغلاف وهو يرفع يده ويلوّح بقبضته المشدودة، بعد محاولة الاغتيال. بينما تمثلت المفارقة الثانية بصدمة السعر، عندما أُعلن أنَّ سعر النسخة العادية (99) دولاراً، بينما حُدّد سعر النسخة الموقّعة بـ(499) دولاراً، ليعود طابع الصفقة ببُعديها المالي والدعائي، ويكون هو المهيمن على هذا الإصدار.

تقنيات الظهور
تعطينا الانتخابات الأميركية أنموذجاً غنياً في الظهور الإعلامي المقنّن بمهارة ودقة، ضمن ما أطلق عليه جوزيف كامبل قبل نحو ثمانية عقود: «البطل ذو الألف وجه». فالمرشح الرئاسي ينبغي أن يتقن في التواصل مع الرأي العام؛ مسرحة الظهور، وبراعة تصميم المشهد قبل الدخول، ثمّ كيفية الحركة ودخول البطل، وأنماط التصفيق، ونسقيات الجلوس والوقوف للجمهور من خلال عمل نخبة منضبطة من الحاضرين تجاوباً مع خطاب المرشح، وإطلاق الشعارات المحدّدة سلفاً، وضبط ذلك كلّه بتوقيتات محدّدة، لا تهمل حتى التحكّم بتموجات الصوت والتلاعب بالنبرة، والضحك والعبوس، والحدّة واللين إلى آخر ما يقع في نطاق ما أطلق عليه أستاذ علم النفس جلين ويلسون، بـ«سيكولوجية فنون الأداء» ضمن كتاب يحمل العنوان نفسه (عالم المعرفة، الكتاب رقم: 258).
بديهي أن تلعب عوامل ثلاثة أساسية في شخصية المرشح، دورها في إتقان هذا الظهور؛ هي الكارزما والهالة والمحبوبية، وهي متداخلة مع بعضها، من دون أن يعني وجودها في المرشح: «توافر الفضيلة فيه أو استقامة الخلق لديه» لأنَّ العبرة والمعيار هو: «القدرة على توكيد الذات» وليس التحلي بالخصال الأخلاقية (سيكولوجية فنون
الأداء، ص: 102 ـ 103).
كما أنَّ نسقيات الظهور الجذاب الموحي التي تبرز في حركة الجمهور أمامنا، وهي تتجاوب على نحو منظم مع خطاب المرشح وكلامه وإشاراته، وحديثه وصمته وما إلى ذلك؛ هي صناعة تتحكّم بها غرف التصميم في مجال الدعاية والرأي العام، يتلقى فيها الجمهور إشارات واضحة للتحكّم بأدائه، غالباً ما تُناط المسؤولية فيه إلى نخبة مدرّبة من الأنصار أو المشجعين المستأجرين.

خبراء الصورة
المضمون والمحتوى السياسي للانتخابات هو آخر ما يفكر به المرشح في التواصل مع الرأي العام، إذ غالباً ما تدور الحملات الانتخابية حول وصايا خبراء الصورة للمرشحين، كوسيلة فضلى للإقناع والاستحواذ على الأصوات. بحسب المعطيات الإحصائية تستحوذ الجوانب البصرية الخاصة بأداء المرشح (طوله وشكله وملابسه وإيماءاته وتعبيرات وجهه) على الأهمية الأكبر وهي المسؤولة عن (55 %) من نسبة
أسباب النجاح الخاصة.
تليها العوامل غير اللفظية من حديث المرشح (مقدار عمق الصوت وسرعته، وانطلاق أو رتابة العرض والتقديم) وهي مسؤولة عن (38 %) من الأسباب الخاصة للنجاح. أما ما يقوله السياسيون فعلاً (مضمون كلامهم، والأطاريح السياسية التي يعبرون عنها) فيأتي بالمرتبة الثالثة والأخيرة، ولا يحتلّ في السلك الثلاثي لهذا اللون من بحوث الجمهور والرأي العام، إلا نسبة (7 %) فقط من توفير أسباب النجاح (سيكولوجية
فنون الأداء، ص: 106).
وبذلك لم يكن ترامب بعيداً عن الحقيقة عندما ذكر أنَّ كامالا هاريس تتدرّب في غرفة خاصة، لكيفية الظهور أمامه في المناظرة التي تمت بينهما فعلاً ليل الثلاثاء 10 أيلول الماضي. وقد ازدهرت في الحياة الأميركية المختبرات أو الغرف الخاصة بمقاييس التقدير، وهي تولي أهمية لعناصر متعدّدة ومتداخلة من قبيل الاستثارة الجماعية والقدرة على الاندماج بالأداء، وحضور الجمهور، والضحك كأداة للتواصل (خاصة عند المرشحة الديموقراطية هاريس) ورمزية الاسم (خاصة لدى المرشح الجمهوري ترامب) ومزايا القدرة على توظيف اللغتين؛ لغة اللفظ ولغة الجسد، واستثمار قوّة الصمت ومدى المهارة في إقحام لحظات الصمت في سياق الكلام، وإيماءات الوجه وهكذا.

تصاعد الإنفاق
بعيداً عن جدليات المال الانتخابي في الحياة السياسية الأميركية، لا يزال التمويل يتصاعد إجمالاً بين أيّ حملة انتخابية والتي تليها، إذ بلغت النسبة الإجمالية لانتخابات 2020م على سبيل المثال، أكثر من (14) مليار دولار بشقوقها الثلاثة؛ الرئاسة والكونغرس وحكام الولايات، على حين تقدّر كلفة الإنفاق في الانتخابات الحالية، بنحو
(20) مليار دولار.
عادة ما تتركز جداليات التمويل بالرقابة، ومعرفة مصدر تدفق الأموال على الحملات الانتخابية، بالإضافة إلى بعض الأصوات التي تنادي بحصر التمويل من المال العام، لكي يسهل ضبطه. كما شهدت أميركا قوانين متعدّدة لمعالجة إشكاليات المال الانتخابي، من حيث معرفة جهة التبرّع، ومقدار المال، وطبيعة الإنفاق، كان من بينها إبّان القرن الأخير قانون عام 1907م، وقانون عام 1947م، بيدَ أنَّ الأبرز هو قانون عام 1974م بعد فضيحة ووترغيت، وتعديلاته المتلاحقة. لكنَّ شيئاً من هذه القوانين وتطبيقاتها العملية في نطاق لجنة الانتخابات الفيدرالية التي تأسّست عام 1975م، أو لجان العمل السياسي، لم تحُل دون تنامي دور المال الانتخابي، ليكون هو الأكبر في الحياة السياسية الأميركية (أمة قلقة.. أميركا من الداخل، تمويل الحملات الانتخابية، ص: 225 فما بعد).
الغريب الذي تسجّله الأرقام هو تقدّم الديمقراطيين على الجمهوريين في الإنفاق الانتخابي، إذ بلغ مجموع المال الانتخابي للديمقراطيين عام 2020م (6,9) مليارات دولار. وجميع المؤشرات الرقمية اليوم تشير إلى تقدّم الديمقراطيين في إنفاق المال على الجمهوريين، سواء ارتبط الأمر بالرئاسيات والمنافسة بين هاريس وترامب، أو بدوائر الانتخابات الأُخر مثل الكونغرس وحكام الولايات، وغيرها من أنساق الانتخابات الفرعية والمحلية.
يكشف الأنموذج التفسيري لهوس المال والثروة، والتحوّل من الحاجة والوظيفة التي تؤدّيها الثروة؛ عن نزعة نفسية وأحياناً اجتماعية، تؤشر بثبات إلى التكوين السيكولوجي للفرد وثقافة الجماعة.
يريد البعض أن يعطي للمال حيّزاً وظيفياً محدوداً عندما يصنّفه في دائرة الموضوعات الاقتصادية. وهو كذلك إذا اقتصرت حركته على هذه الدائرة، ولم يتخطّ مقولات العرض والطلب ومستوى المعيشة، والتضخّم والأسعار وما شابه. لكنه ليس كذلك في مدارات الحصول عليه، وادّخاره ومراكمته وإنفاقه. فللتصرّف هنا صلة مسيسة بالأنساق النفسية للأفراد، ولثقافة الجماعات والمجتمعات. عند الطابع النفسي وطبيعة التأصيل الثقافي لدور المال، تبرز سلوكيات النصب والاحتيال، والرشوة والفساد، والتهرّب من الضرائب، وغسيل المال وأمثال ذلك، ما يعني أنَّ للمال أكثر من تفسير؛ اقتصادي، وتربوي ونفسي، وثقافي يتدخّل في نسقيات التكوين الشخصي والجماعي والاجتماعي، وهكذا (تُنظر الدراسة المبدعة وتطبيقاتها الحياتية الرائعة: سيكولوجية المال.. هوس الثراء وأمراض
الثروة، أكرم زيدان).
وبعدُ، فالمال السياسي في أميركا هو أحد مرتكزات وجود هذا البلد وديمومته، ومؤسّساته ركن من أركان الدولة العميقة، لا يشذّ في أداء مهامه من حيث مكافأة المانحين بمنحهم مناصب بارزة ومؤثرة في الإدارة العامة، كما هو شأنه في كلّ التجارب والبلدان.

الإعصار والأسعار
لقد حرص الرئيس الحالي بايدن على أن يجعل طريق هاريس سالكة إلى الفوز بالرئاسة وبلوغ البيت الأبيض. وكان من بين خطواته الجادّة في الداخل، هو الحرص على كبح جماح الأسعار والحؤول دون ارتفاعها، وقد نجح نسبياً في ذلك خاصة على مستوى المحروقات والغذاء، مع مؤشرات سلبية واضحة في بقية المرافق، ولاسيّما ارتفاع نسب البطالة وتضخّم الأسعار خارج نطاق المحروقات والغذاء.
لكن ما لم يكن بالحسبان هو إعصار ميلتون في فلوريدا وخسائره الموضعية الكبيرة، بالإضافة إلى الخسائر المؤجلة التي قدرها الرئيس بايدن نفسه، بما يزيد على (50) مليار دولار (تتحدّث شركات التأمين عن خسائر تبلغ 100 مليار دولار) أصابت تدمير المباني وشبكات الكهرباء وبعض الطرق، بالإضافة إلى الخسائر بالأرواح؛ وهو ما أدّى بمجمله بالإضافة إلى عوامل أخرى، إلى تقدّم ترامب على هاريس في بعض الولايات المتأرجحة، أو تقليص فارق النقاط بينهما على الأقلّ.

مفاجأة أكتوبر
السؤال: هل ستبرز ما أسمتها هيلاري كلينتون بـ«مفاجأة أكتوبر»؟ وما هي المصاديق المحتملة لها؛ وكيف ستؤثر في المرشحَيْن المتنافسين بضراوة؛ ترامب وهاريس؟ إذا أخرجنا مؤثرات السياسة الخارجية عن نطاق التأثير، فإنَّ ما يؤثر في حظوظ المرشحَيْن، هي متغيّرات الداخل وحده. اللهم إلا إذا حصل متغيّر خارجي له مساس بحياة الناخبين في الداخل ومزاجهم، كتطورات تؤدّي إلى ارتفاع الطاقة ولاسيّما البنزين، أو تعرّض «إسرائيل» لضربة قاسية، أو أي
متغيّر بهذا المستوى.
بذلت إدارة بايدن ولم تزل جهداً كبيراً لضبط متغيّرات الخارج على صعيد الأشهر الأخيرة، والأسابيع الثلاثة المتبقية للانتخابات. لكن المشكلة في تباين تفكير فرقاء الخارج، ففيما يمكن لروسيا أن تصعّد في أوكرانيا لتساعد على فوز ترامب، فإنَّ حليفتها إيران تبذل المستحيل لكي تحول دون صعود ترامب، لأنها تعتقد أنَّ التعامل مع رئيسة ديمقراطية كهاريس أسهل من التعامل مع الجمهوري ترامب. ومن ثمّ فإنَّ أي فشل من إدارة بايدن أو خطأ في ضبط هذا الإيقاع المتضارب، قد يؤدّي مباشرةً إلى مفاجأة أكتوبر على الصعيد الخارجي.
أما على الصعيد الداخلي، فبالإضافة إلى متغيّرات الاقتصاد (وهي إجمالاً تحت الضبط لصالح إدارة بايدن) فالخشية التي يمكن أن تنتهي إلى المفاجأة، هي التفاعل الذي راح يتسع في جزء منظور من الرأي العام الأميركي، وهو يتجه بالتمييز السلبي ضدّ هاريس، ليس لأسباب عنصرية تعود إلى اللون والأصل السلالي وحسب، بل أيضاً إلى الجنس، وأنَّ أميركا بحسب هذا التيار التمييزي ليست على استعداد بعد، للتعامل مع امرأة في موقع الرئاسة في البيت الأبيض، وهذا ما يصبّ نهاية المطاف لصالح ترامب، وقد يأخذ بيده إلى البيت الأبيض، إذا اتسعت رقعة هذه التفاعلات التمييزية السلبية، وإذا ما دعمتها متغيّراتٍ أُخر، خلال الأيام المتبقية على يوم التصويت.