الوظيفة القضائيَّة

العراق 2019/06/24
...

القاضي ناصر عمران الموسوي
يستند القضاء العراقي الى مرجعية تاريخية موغلة  بالقدم وضاجة بالعدالة منذ حوالي (2100) سنة قبل الميلاد، حين وضع الملك العادل حمورابي مسلته القانونية التي تشكل (تحفة تشريعية وقانونية ) لما تزل نصوصها تحوي في طياتها الكثير من الرؤى والمبادئ القانونية التي يتبجح عالم اليوم بانه يسعى الى تحقيقها ومن خلال ذلك تحقيق العدالة الانسانية  فحين يقول ( انا حمورابي اعمل على جعل العدالة تعم البلاد حتى لا يظلم القوي الضعيف ). 
فانه يشكل مؤسسته القضائية ويمنحها علوية على سلطاته الاخرى باعتباره رئيساً للدولة ،هذا الارث الحضاري لم يترجم في المرحلة الزمنية لمسيرة الارض العراقية التي مرت بمراحل تنظيمية من القرية الى المدينة والدولة والامبراطورية وحين حدث التغيير عام 2003 ،  شهد العراق اول دستور دائم يصوت عليه الشعب في استفتاء شعبي تضمنت نصوصه القانونية شكل الدولة وادارة الحكم فيها وعلى اساس  تعدد السلطات في الدولة ( السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية ) وفق المادة  (47) من الدستور وتكون كل سلطة مستقلة بإدارة شؤونها عن الاخرى وفق (مبدأ الفصل بين السلطات ) لكن الملاحظ وعلى الرغم من ان الدساتير تنص على وجود هذه السلطات الثلاث الا انها تمنح جل اهتمامها لتبيان تشكيل السلطتين التشريعية والتنفيذية وتنظيم مهامهما دون السلطة القضائية، حيث تكتفي الدساتير بتبيان الخطوط العامة و الرئيسة في تنظيمها واختصاصاتها  وتشكيلها مردفة ً ذلك بعبارة (وينظم بقانون ) و بالتالي فإن الدستور يترك السلطة القضائية مرهونة بيد السلطة التشريعية من زاوية تنظيمها  فأما تأتي نصوص القوانين مفصلة بشأن تنظيم هذه السلطة و بيان اختصاصاتها أو على العكس قد تأتي مختزلة ولنا في المواد الدستورية التي تنظم السلطة القضائية ومكوناتها وادارة شؤونها في المواد  (87 - 101 ) مثالا ً ، و كل الخشية  أن تأتي النصوص حاملة في طياتها جوازاً لتدخل السلطتين التشريعية و التنفيذية بتنظيم السلطة القضائية،  عليه فان  تحصين السلطة القضائية من التدخل  يتم عن طريق تعزيز وتجسيد استقلال القضاء والذي  لا يعني انفصال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية  انفصالاً تاما ًوانما هو استقلال لا يتعدى حدود عدم التدخل بشؤونه من قبل باقي السلطات ، إن طبيعة الوظيفة القضائية تقوم على تحقيق العدالة وحماية حقوق الافراد وحرياتهم واحترام القانون وتوجب عدم التدخل في عمل القضاء ليتمكن من تحقيق وظيفته وبخلافه سيؤدي الى  حدوث الاضطراب في المجتمع وزعزعة الثقة
 بالقانون .  ويُعتبر مبدأ استقلال القضاء  القاعدة الجوهريّة في عمل السلطة القضائيّة، أيّ أن هناك قضاة ينظرون في القضايا المعروضة على مجالس القضاء، ويصدرون الحكم فيها لخبرتهم في القضاء والقانون، ومعرفتهم في الحكم، و القاضي مستقل في حكمه، لا يتأثر بالمصالح الشخصية أو الضغوطات الأخرى لضمان الحق العام والحق الخاص .ان وظيفة القاضي الأساسية بعد الفصل في النزاع المعروض هي  استشراف الحلول الممكنة لتطوير المنظومة الحقوقية ككل وجعلها أكثر اتّساقاً مع المبادئ العامة للعدالة والمواثيق الدولية. ومن أهم وسائل اسناد هذا التصوّر ضمان واحترام مبدأي (الضرورة والتناسب)  في كل ما يتصل بتقييد الحقوق أو الحريات 
الأساسية. 
والتي تفرض على القاضي أن يتفاعل معها وأن يغنيها أو يدعّمها بحججه وأحكامه. وهذا الأمر لا يعني بحال من الأحوال أن يصدر القاضي أحكامه وفقاً لمعتقداته الشخصية إنما أن يستخدم كلّ ما توفره له التشريعات و المبادئ القانونية وقواعد التأويل والاتفاقيات الدولية مع تطبيق قانوني يستشف روح النص وغايته ، ان فهم الوظيفة القضائية على هذا النحو  يجعل من القاضي 
واجتهاداته محوراً أساسياً في الحياة العامة وضابطا ً مهما ً للسلوك  الاجتماعي ومنظما ً له، فتنقل إليه القوى الاجتماعية العديد من قضاياها  التي تجد لها في سوح المحاكم حلا ًلتتحول بعدها الى مبادئ  قضائية تسهم في تحول الوظيفة القضائية الى صناعة قانونية وبالتالي الى صناعة تشاركية وتراكمية تحدد صورة وشكل التفاعل بين المواطن ومؤسساته القانونية،  فيكون بإمكان أي مواطن الانخراط في هذه الصناعة من خلال مرافعاته داخل المحاكم واسانيده وحججه في القضايا المعروضة  وعلى ضوء  الحجج التي تُضمن في الاحكام ، والتي تخضع لحكم القانون وتحاكي روحه وتحقق غايته من ثم ليس فقط  عمل تقييمي بين القضاة الأعلى  للأدنى درجة ولكن أيضاً لتقييم الفقه والتشريع والقانون وهو التزام قانوني ملقى على عاتقه باعتباره الضمانة الأكيدة لبناء دولة القانون، هذه التي لا معنى لها أمام عدم انسجام التنظيم القانوني للدولة، فجوهر وظيفة القاضي تطبيق القانون بمعناه الواسع، وليس له حرية تطبيق بعض القوانين والإعراض عن بعض أو تعطيلها دون مسوغ مشروع، فمن أخص مهامه تحقيق وحدة النظام القانوني وتكامله، ومفاد ذلك انه غير جائز للقاضي الاحتجاج بوجود قاعدتين متناقضتين أو متعارضتين، 
بل واجبه هو التوفيق بينهما أو حل هذا الإشكال، لان القول بغير ذلك يمثل إخلالا بمبدأ الشرعية وإنكارا للعدالة، 
فالقاضي هو السلطة المنوط بها تفسير القانـون وتطـبيقه، وعليه إذا ما عرض له عارض أي إذا ما اكتشف غموضاً أو تعارضاً أو نقصاً في التشريع الذي يهم بتطبيقه أن يتصدى لهذا العارض، ويسعى إلى إزالته
 ليمهد السبيل إلى التطبيق الصحيح للقانون، ولا شك أنه يؤدي هذا الدور ويقوم بهذا الواجب وفقاً لضوابط قانونية محددة لا تفسح مجالاً للتعسف وفي كل قضية يفصل فيها  يجعل حكمه مسبباً، وبالتالي محصناً 
ضد النقض والإبطال من الجهات القضائية العليا، ولا بد أنه سيصل لاستبعاد إحدى هذه القواعد القانونية ليطبق الأخرى بما يراه محققاً للعدالة وموافقاً للقانون. والقاضي ملتزم بالإجابة على كل الدفوع تحت طائلة عدم التسبيب الذي يجعل حكمه معرضاً للنقض والإبطال، 
فإذا أثير أمامه دفع من أحد المتقاضين بأن النص المراد تطبيقه عليه مخالف للنص الذي يعلوه في الدرجة ما يجعله غير دستوري أو غير مشروع ، فإن القاضي ملزم بالرد على هذا الدفع طالما رآه جدياً وشهد التطبيق القضائي الكثير من القوانين او المواد القانونية التي
 تم الغاؤها عن طريق طلب القاضي النظر في دستورية المادة او القانون امام المحكمة الاتحادية العليا، ان الدور الذي اضطلع فيه القضاء والقاضي العراقي في مرحلة انتاج دولة المؤسسات القانونية والدستورية بحاجة الى تأهيل تشريعي وقانوني وتنظيمي للشأن القضائي يجعل منه الحاسم لكل التحديات التي تواجهه لتكون رسالته العادلة حاضرة في اذهان الجميع، وذلك لا يتحقق الا من خلال الارتقاء بالوظيفة 
القضائية.