أدب الهروب.. التوجه نحو العاصفة

ثقافة 2024/10/23
...

  بغداد: مآب عامر

يتساءل الكاتب سي إس لويس في كتابه "حول الخيال العلمي": من سيكون الأكثر عداء لفكرة الهروب، ويجيب على نفسه بطريقة تقريرية وحاسمة : السجانون!؟

وهذه الإجابة على وضوحها وبساطتها تحيلني لفكرة القيود والأغلال والسعي الأبدي والدائم لنيل الحرية، التي ألمسها بشكل واضح في الروايات والقصص التي تتناول "الهوبيت" بوصفها نوعاً من "أدب الهروب" أو "الخيال الهروبي"، الذي يوفر كما يقول كامل المهندس في معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، "مهرباً للقارئ من عشوائية وتخبط العالم المادي عبر خلق عالم منظم ومنطقي فيه الكثير من الحلول لمشكلات وتحديات". فقد ظهر مفهوم "الهروب" في الأدب بحسب المصادر كطريقة للتعامل مع الوجود غير الكامل، إذ يمكن للقارئ الهروب مؤقتاً من الواقع. وأن الفكرة المفاهيمية والغرض من الأدب الهروبي هو محو الاختلاف وتحرير القراء من تعقيدات ومسؤوليات الخصوصية التاريخية.

وقد استُعمل مصطلح "أدب الهروب" للإشارة إلى سرديات بدت ترفيهية وغير جادة بالنسبة للقراء أو للمهتمين بالكتابة، بل ومنفصلة عن هموم العالم الحقيقي، إذ أظهر في كثير من الحالات وكأن فعل الهروب هو من أعمال الشجاعة وحتى النبل، على سبيل المثال هروب الأبطال في الروايات والقصص في الأسر بالحرب أو الفرار من الأوبئة والكوارث أو المدن الاستبدادية. 

ويظهر "الهوبيت" الذين هم من الأعراق الخيالية التي تمتاز بقصر القامة كالأقزام كما صورها لنا الكاتب "جون روتالد تولكين" الذي أشتهر بمؤلفاته الكلاسيكية وتناول شخصيات "الهوبيت" عبر سلسلة فنتازية مليئة بالمغامرات الملحمية الشيقة، وجسدت مشاهد مختلفة عن الشجاعة والصداقة واكتشاف الذات والتسامي الروحي في عمق فلسفي وفكري يبدو للمتلقي مستوحى من الحياة الواقعية، ولكنه في حقيقة الأمر وعلى وفق "أدب الهروب" وسيلة خيالية من التصور الذهني تتناقض مع نفسية المتلقي الذي يبتعد كثيراً عن حياته اليومية.        

ويبدو من الطبيعي، بل ومن المنطقي تقريباً، أن يجد الأشخاص الذين خاضوا تجارب صعبة دفعتهم للهرب من الموت والكوارث في فهم فكرة الواقع البديل، وهذا الشيء هو ذاته ما يحدث في "أدب الهروب" الذي لاقى مفهومه بعض المعارضة والتضارب في قبوله، فظهر من لم يقبل بصورته، فهناك  كتّاب وقراء نظروا إلى مفهومه في سياق آخر، فكلمتا "الخيال الهروبي" محملتان بمعانٍ سلبية تنتقص من ذات ونفسية الفرد، إذ معاني الجبن والخذلان واليأس والسطحية في تناول الأفكار والتجارب، ولكن الحقيقة هي أن أدب الهروب هو شعوري تجاه عالم بديل، بل أنه يوفر بوصلة أخلاقية وتعليمية لتجارب الحياة، كما يمكن أن يمثل المخاوف الشخصية ومعاناتها، لأننا نكون في بعض الأحيان بحاجة إلى هذا "الهروب" لنتمكن من الاستمرار، وخاصة أن هذا النوع من الأدب نفسي بالأساس، إذ إن النظريات التحليلية النفسية الأساسية، مثل "عقدة أوديب" جاءت من الأدب.

وفي الحقيقة، في كثير من الأحيان وأنا أقرأ رواية أو أتابع فيلما أو مسلسلا من الخيال الفنتازي أو لأدب الهروب كسلسلة "الهوبيت، وسيد الخواتم" أتضامن مع الأبطال ومغامراتهم الهروبية، لأن الأحداث الخيالية تواجهني بحقائق خطيرة عن حياتنا الواقعية.. هو مهرب يحررنا ويعيدنا إلى واقع مختلف. وهو ما يشبه إلى حد ما قول دمبلدور في سلسلة "هاري بوتر ومقدسات الموت: "أخبرني بأمر أخير، تساءل هاري. هل هذا حقيقي؟ أم أن هذا ما يحدث داخل رأسي؟. أجاب دمبلدور: بالطبع هذا يحدث داخل رأسك يا هاري، ولكن هذا لا يعني أنه ليس حقيقيا".

إن أدب الهروب، تربطه خيوط غير مرئية بمناطق مثيرة في العقل.. وهو يحرض بطريقة مباشرة  أو غير مباشرة على التحول الدائم نحو ضفاف جديدة. لذا هو الأجدى كما أزعم في التفاعل مع ذات القارئ، لأنه يبدأ من نقطة حرجة، وينتهى إلى نقطة حرجة أخرى، ففيه نعيش ما نتمناه   وما نرغب به حتى وإن كانت أرواحنا تفتعل السكون. هو صيرورة جديدة من خلال اللغة والخيال والتماهي.