غنوة فضة
كيف نعرف بدقة ما يُحمس أحدهم، وما يسلبهُ الزمن من شخص ما؟ أين يخفي الإنسان الزمن؟ ولمن يُفترض أن يقدمه هدية؟ كيف نستعمله ونتمتع به بصورة أفضل. ومتى ينبغي التخلي عنه؟ من هذه الأسئلة الكبرى يخلق الكاتب والفيلسوف الألماني روديغر سافرانسكي (1945) مسألة تشريح الزمن والاهتمام به من منظور جديد. ففي كتابه “الزمن ما يفعله بنا وما نصنعه منه” الصادر عن دار فواصل (2022) بترجمة عصام سليمان، يلتفت إلى الزمن انطلاقاً من تأثير فلاسفة سبقوه في دراسته؛ إذ يبدأ في مقدمة كتابه بمقولة آرثر شوبنهاور: “حين نريد أن نفهم ما هو الزمن، فالأفضل ألا نتوجه نحو الفيزياء، بل إلى تجربة الملل”. هكذا يُرجع الكاتب الشعور بالفراغ إلى غياب أي اهتمام حيوي بالأحداث. إذ يبدو الزمن لافتاً بالنسبة لنا بالقدر الذي تنقص فيه الحوادث. وبينما تؤثر الذكريات والتوقعات في تجربة الحاضر، يكتسب الزمن حجماً وسعة وعمقاً. لذا يدرس الباحث ظاهرة الملل الذي يرى أنه يكمن في الوسائل التي يتم عبرها التخلص منه. ويعطي في دراسته فصلاً لدراسة الملل قبل أن يشرع في دراسة تأثير “البدايات” على الزمن.
تكمن في كل بداية حقيقية فرصة للتحول، وهو ما شكّل لدارسي الأدب اهتماماً بمغامرة البداية. فالأدب يقفز خارجاً من سلسلة الزمن، ويُفهم على الدوام، أياً كان موضوعه، بوصفه تعبيراً عن بداية جديدة. لأنه غالباً ما يجعل الرغبة في بداية جديدة موضوعاً له. ويتخذ الكاتب من فرانز كافكا (1883-1924) مثالاً يجسد تلك النظرة البدئية؛ إذ وجد الكاتب التشيكي السعادة في الكتابة لأن البداية فتحت له عالماً جديداً. إلا أن مسألة الزمن ظلت بالنسبة لهُ متعلقة بالماضي رغم أنها موجودة في الحاضر. وهو ما دفع الكاتب لدراسة النسيان انطلاقاً من فهمه لعلاقة الماضي بالحاضر، ومسألة سلطة أحدهما على الآخر. حيث وجد أن هناك فهماً للزمن ينفي الحرية، وآخرَ في حلف مع الحرية التي تربط العالم بالإنسان، فكل حدث تم من خلالنا، يُفَسّرُ خطأ على أنه فعلنا الخاص، في حين تشرح علوم النفس والبيولوجيا أنه من فعلٍ لم يتم عبرنا حقيقة بل الأصح أنه حدث من خلالنا.
يتألف الكتاب من عشرة فصول؛ وفيه يدرس الكاتب ظواهر الملل، والبداية، والهمّ وتأثيرها في الزمن؛ إذ تتغير العلاقة مع الزمن بتأثير تلك الظواهر. إلا أن سافرانسكي يتوجه لدراسة الهم أو القلق من جهة الزمن، فالمرء يهتم بنفسه لأنه يتطلع إلى المستقبل، لكن تحول الزمن وتبدل الظروف قد يصيب ذاته التي يهتم بها في المقام الأول، وهو ما يعوق إدراك تحولاتنا اليومية في كل فعل. هكذا يدرس الكاتب الصراع الذي تسلكه الذات المهمومة لتحافظ على وجودها بألا تضيع في العالم المقلق. هذا العالم الذي يتغير على الدوام، حيث يختلف الهم والقلق فيه في كل مرة، وبالتالي تختلف نوعيته، والكيفية التي استُثمر بها تبعاً للحقب الزمنية للحضارة. ففي حقب قديمة كان الهمّ يشغل المرء جرَّاء الطبيعة، والغزو، والكوارث. أما في عالمنا اليوم، فقد حمل العصر الحديث سبباً جديداً للهم، وهو المخاطرة، والمقصود بها التأثير المتبادل لأنشطة تزداد قوة وتقنية كل يوم.
يقول سافرانسكي: “زمن الملل، زمن البداية، زمن الهمّ. لكن ما هو الزمن الذي يشلُّنا حيناً، ويحفزنا حيناً آخر، ثم يكدرنا مرة أخرى؟”. من هنا ينفذ نحو مسألة الأزمات المالية بوصفها أزمة في إدارة الزمن. ويعزو ذلك لكوننا نعيش في مجتمع السرعات المختلفة، فالإيقاع الذي تُبرم فيه الصفقات في اقتصاد المال سريع للغاية، ويتطلب استجابات عاجلة. إلا أن التسارع في وسائل التواصل التقنية، ووسائل النقل أيضاً سمح بتجاوز المكان الافتراضي والذي باتت تستعمله أعداد متزايدة من البشر. الأمر الذي جعل من عجلة الزمن هذه تملأ زمن الحياة التي خرج منها توق عارم إلى أشياء جميلة ومجهولة.
يهتم الكتاب بدراسة ما يفعله الزمن بنا وما نصنعه منه، ويكشف عن زمن الحياة في العالم المدار ضمنها. إلا أن اللافت في الكتاب، اهتمامه بدراسة العلاقة بين اللغة والزمن، إذ يُنشئ الزمن مع اللغة فسحة للعب، ومعها يتخطى حدود الزمان والمكان المشترك. فما يمكن أن تقوم به الكتابة؛ أن تجمع في ذاتها ثراء الزمن وتجود به على كل الأزمنة. هكذا ينفتح عبر وسطي اللغة والكتابة كونٌ بأكمله، حيث لا يتم نقل حدثٍ حاضرٍ فحسب، بل يأتي إلى العالم شيء ما كان قد انتهى منذ وقت طويل أو لما يزل باقياً. يبدو السرد عبر دراسة الأسطورة أكبر لاعب مع الزمن. فالدافع لإنقاذ الحياة عن طريق السرد إيجابي بلا حدود؛ وهنا يأخذ الكاتب من “ألف ليلة وليلة” مثالاً، إذ تروي شهرزاد لكي تؤخر موعد قتلها، وفي قصص “الديكاميرون” أيضا تُروى الحكايات لمواجهة الخوف من الطاعون الكبير. هنا يكشف السرد عن قدرته على اللعب مع الزمن، وفي ماهيته التي تمكنه من خلق حالة الراحة من الجدية أو الخطر أو الموت نفسه. لذا يقول سافرانسكي: “كثيراً ما يجري الحديث عن الموت، لأن المرء يستطيع أن يبقى على قيد الحياة في السرد”. فاللعبة الأدبية مع الزمن مثلاً، تعرف كيف تتسلل عبر الشخصية المترددة، والتي من الممكن أن تؤثر في عامل الزمن. هاملت مثالاً، سواء في مراقبة سرعة زواج أمه بعد وفاة أبيه، أو السرعة المطلوبة منه للأخذ بالثأر.
هكذا يجعل سافرانسكي من كتابه أبدية صغيرة، وصيغة تحمل روح الفن والسرد لتفتح فضاء للزمن الدوري، والذي يؤهل لإعلاء شأن الحياة الفردية؛ فحين نفهم حياتنا الخاصة المحدودة كحدث عابر في سيرورة الحياة الطويلة. تجدد الحياة نفسها، ولا تختفي، بل تتحول لتنتج حياة أخرى يندمج عبرها الزمن، وتتجسد فيه الحياة بشكلها الكلي والأعظم.
كاتبة من سوريا