عبد الغفار العطوي
من ملامح العولمة المقاربات الثقافية التي تمتاز بها فلسفتها نحو فهم كامل لما تسمى بـ(العولمة الثقافية) التي راجت في الآونة الأخيرة بصورة لافتة، والتي أرست المعالم القوية في المجتمع المعولم، وأظهرته في حقيقة الواقع الاجتماعي بما جعلته مختلفاً جداً في وضع المجتمعات الإنسانية التقليدية على أعتاب عصر جديد، في كل مظاهره وتوجهاته، وأبنيته وثقافته وطرائق تفكيره وسبل سلوكياته ونهجه ومعتقداته، بعد أن نفض عن نفسه غبار الرؤية الثقافية للمجتمع الكلاسيكي، في كتاب (نحو فهم للعولمة الثقافية بول هوبر).
يتناول الكاتب بول هوبر تحليل العولمة الثقافية، ما هي؟ وكيف تأسّست؟ وما الثقافات المتحركة؟، وكذلك وصف التواصل الكوني الذي فرضته وسائل الميديا وتكنولوجيات الإعلام، ونشوء الصراع الثقافي بمختلف الصعد الكونية والقومية، لنصل إلى ذروة الصراع بين العولمة ومفهوم الكوزموبوليتانية، ومدى علاقة هذه العولمة الثقافية التي طغت على ملامح القرن الحادي والعشرين في تكوين المجتمعات المعولمة؟ من خلال أنها قامت بتهشيم الأواصر التقليدية لتلك المجتمعات عن طريق تحويلها من مجتمعات كانت تعتمد على البنيات الثقافية والاجتماعية للأسر التقليدية، نحو مجتمعات معولمة
Globalized society
التي ارتبطت بنوع من النظم النفعية المغايرة لما كان متعارفاً عليه في السابق، وذهبت نحو عالم جديد مصنوع، والعولمة الثقافية هي ذروة مراحل العولمة، والأكثر اتساعاً وتأثيراً اليوم، فثمة العولمة الاقتصادية التي تتسم بالشراسة والعدوانية (من أجل عولمة أفكار بديلة حول اقتصاد عالمي جديد والدن بيلو) التي ظهرت بوادرها مع أزمة المشروع العالمي والاقتصاديات الجديدة أثناء تولي جورج دبليو بوش رئاسة أميركا التي أدت إلى تفاقم المجتمعات نتيجة الأزمة الاقتصادية، وانهيار أواصرها الأسرية، وردت الأزمة إلى العولمة التي اختلف عليها وما نشب من جدال حول طبيعتها وحدودها وتاريخها ومساراتها المستقبلية، وبالتالي نستطيع البحث في الأمر، في أنه يمكننا القول ليس هناك مجال معرفي واحد باستطاعته شمولها، أو تقديم تفسير كاف لأبعادها وتجلياتها، من هنا ننوه بأنَّ العولمة امتازت بسعة المجال الحيوي العالمي الواسع الذي أثارته، في تطوراتها المتعاقبة وتعدداتها المختلفة ولكثرة التعريفات والتوصيفات الكثيرة التي اشتهرت بها، إلا أنها مرت بثلاث موجات متعاقبة بدءاً من القرن التاسع عشر، وانتهت إلى أن تقدم للمحاسبة والمحاكمة (محاكمة العولمة ج1 محركات العولمة إشراف إدوارد غولد سميث جبيري ماندير) لكن من أهمّ ما حققته العولمة ما بات يعرف بالمجتمع المعولم الذي نركز عليه الآن، لاعتباره من أهم مظاهر العولمة الثقافية، وأخطرها على المجتمعات التقليدية، بسبب أنها عمدت إلى تهديم تلك المجتمعات عن طريق تهشيم الأسر التي هي بمثابة البنيات الأساسية في المجتمع القديم، عن طريق إشاعة سبل وطرز مبتكرة في ما يعرف بالزواج المعولم بدلت نمط الحياة الأسرية المتعارف عليها باجتراحات غريبة، ساهمت في تمزيق الأسر التقليدية، وإقامة الأسرة المعولمة! التي اعتمدت على ما يسمى (الحب عن بعد) أي تشكيل أنماط من الحياة المعولمة دون الاهتمام بمسألة القرب الحميمي للأسرة، إنما خلق صناعة نفعية لأسرة تتكون من أفراد غرباء، لا روابط بينهم، ولا يجمعهم جامع سوى مفهوم (الأسرة) لتنتشر فكرة الزواج المعولم عن طريق طرح استراتيجيات الهجرة بغية الزواج، وبعد أن كان ذلك الزواج فكرة مضحكة وطريفة تناولته الكتب القصصية في الثقافات المتعددة بلغة ساخرة وتهكم حول الصورة الغريبة للزواج على هذه الشاكلة، التي تتضمن قصص الحب والزواج والأبوة التي تتعدى حاجز اختلاف الثقافات وحاجز المسافات البعيدة، لكن ما يحدث الآن هو تحقق بشع لتلك القصص، وربما ساهمت البشرية بأجمعها والثقافات المختلفة في انتشار تلك الفكرة، وأن نجد مصطلح (الأسرة المعولمة) ماثلاً في عصر العولمة، فالأسرة المعولمة إذاً هي أسرة تعيش بعضها مع بعض متجاوزة كلّ الفوارق القومية والدينية والثقافية والعرقية كما ينتمي إليها ما لا يمكنه أن ينتمي للأسرة بمفهومها السائد التقليدي، ليفهم من هذا النص أنَّ الأسرة المعولمة التي تشكل مجموعة المجتمع المعولم هي عبارة عن صناعة معولمة، أساسها خلق عالم نفعي براغماتي جديد، تتميز الأسرة المعولمة عن الأسرة التقليدية بالثقة الفاعلة الناجحة، لأنها توفر نوعين أساسيين من الحب النائي (حيث يكون الآخر البعيد الغريب النائي هو الحبيب القريب الداني) رغم أنَّ تلك الأسرة لا يجمع أفرادها أي مكان واحد، ويطلق عليهم (الأخلاء) النوع الأول منهم الذين يعيشون منعزلين عن بعض في أوطان ليست بأوطانهم وفي قارات مختلفة، لكنّ انتماءهم إلى أصول ثقافية واحدة مثل الدين واللغة وجواز السفر، فهذه الأسرة المعولمة هي أسرة متعددة القوميات، ومثال عليها أن تكون الزوجة تعمل في مكان ناء بعيد والزوج والأطفال في مكان ثان، والنوع الثاني من الأسرة المعولمة (الأخلاء) والأسر التي تعيش في مكان واحد، لكنها تنتمي إلى بلدان مختلفة أو قارات مختلفة، وتتصور الحب والأسرة مصبوغاً بصبغة ثقافة منشأ كلقافات لتبرير الزواج منهم، كأن ينتمي الزوج لبلد والزوجة لبلد مختلف، ويعيشون مع أطفالهم في بلد ثالث، وربما تكون هذه الأسر المعولمة قد تكونت من مشروع الهجرة من أجل الزواج، الهجرة الزوجية التي تبحث عن الحلم بحياة أفضل حيث تتزايد أعداد الذين يقيمون علاقات حب ويشكلون منها أنماطاً حياتية مع الآخر عن طريق تجاوز الحدود الجغرافية، وأنَّ شيوع هذا الزواج المهاجر في عصرنا ليشكل ظاهرة تتسبب في إنتاج مجتمعات مرتبكة، لكن ما يشجعها هو التوق إلى الفصل بين (الحب) الأسري التقليدي، وبين الانفصال عن الآخر الجسدي التساكني، والهجرة في طلب الحياة الجيدة وفرص العمل التي توفر لقمة العيش، هي الخطوة الأولى في ظاهرة الزواج المعولم، حتى لاح أنَّ خيار الزواج كأحد الطرق نحو الهجرة، يعطي لتلك الأسر المعولمة فرصة للتزايد، فيترتب عليها خلق أسباب وثقافة تسهم في تحولها لحقيقة قائمة في عالم جديد.