الكتابة بخط اليد.. تعبيرٌ عن هويَّة الفرد
رحيم رزاق الجبوري
تلتقط عيناك بين حين وآخر، نماذج عدة على شكل مطالعات وهوامش وخواطر ومذكرات يومية من الأرشيف، وفي وقتنا الحاضر، تظهرها وسائل التواصل الاجتماعي، أو موجودة في الكتب- مكتوبة بخط اليد لرؤساء وقادة دول، ومسؤولين كبار، فضلا عن السير الذاتية والمخطوطات الأدبية للمشاهير والكُتّاب والأدباء والشعراء وغيرهم؛ فتلاحظ تباينا واختلافا كبيرين في أنماط هذه الخطوط، من حيث الأسلوب وسباكة الحروف ودمجها، فتعجب بجمال بعضها، وتستغرب وربما تتهكم على رداءة وسوء الأخرى.
حينها يراودك سؤال: ما الشيء الذي يسهم ويجعل خط اليد جميلا ومبهرا، وكيف يكون العكس؟ فالمتخصصون بهذا الشأن، يؤكدون أن هذا لم يأتِ من فراغ أو صدفة أو بالفطرة، فالكتابة باليد تنمو مع الشخص منذ الصغر، وتحتاج للاستمرارية والتدريب لإتقان رسم الحروف والكلمات والتعود عليهما، وصولا للشكل النهائي، الذي يظهر عليه أسلوب الخط الخاص بأي فرد، ويصبح هويته وكيانه وبصمته الملتصقة به. فهو متعة غير متناهية، وشغف متنام، وإلهام لا يقاوم؛ لأنه ببساطة فن صريح وواضح كسائر الفنون الأخرى. فالكتابة باليد لها مردودات إيجابيات كثيرة، فهي تؤثر بشكل كبير في النمو العصبي، وتدعم التعلم وتنمي مهارة الإدارة. وقد أثبتت الدراسات أن الأشخاص الذين يكتبون عادة باليد، يكونون أكثر قدرة على التعامل مع الأسئلة والاستفسارات المبهمة، ولديهم الإمكانية في تذكر المعلومات وفرزها، كما أنها تمنع الإلهاء، وتقوي التركيز، وتسمح بتدوين الملاحظات بشكل أفضل، وفضلا عن ذلك فأنها توقظ الذهن، وتلهم الإبداع، وتساعد على ابتكار وفهم الأفكار الجديدة والملهمة.
تجربة
إلى ذلك يروي الخطاط جاسم حميد الربيعي (مدرب مهارات تحسين خط الكتابة اليدوية)، تجربته الثرية في هذا المضمار، من خلال اطلاعه الواسع على حجم رداءة وسوء الخط لدى العديد من شرائح المجتمع، لا سيما التلاميذ منهم، إذ يقول: "عندما جاءتني فكرة كيفية إضافة تحسين خط الكتابة اليدوية قبل عدة سنوات للطلبة والتلاميذ، الذين خطوطهم سيئة وغير مفهومة، والتقليل من هذه المشكلة؛ لم أتوقع حجم المشكلات التي وقعوا فيها وخصوصا طلبة الصفوف المنتهية في إجاباتهم على ورقة الامتحان؟ وكيف أن سوء الخط ساهم بشكل كبير بخفض درجاتهم الامتحانية، علما أن مذاكرتهم اليومية وحفظهم لدروسهم جيدة جدا. إذا الخلل في ذلك هو بإيصال المعلومة ودرجها بشكل غير مفهوم وغير مقروء بصورة سلسة لمصحح ورقة الامتحان عبر كتاباتهم؛ أما يكون بسبب سرعة الكتابة، أو الارتباك، أو الضغط النفسي والجهد الموجه لهم من قبل الأهالي بغية إكمال الامتحانات".
مشكلات متأصلة
ويضيف: "إن من أهم المشكلات التي تؤدي لسوء الخط وبنسبة عالية هي (مسكة القلم) المهمة للتلميذ. وهذا الأمر قد عانيت منه إلى أن توصلت إلى طريقة تساعد في تحسين أسلوبه". راجيا من كوادرنا التدريسية والتعليمية بـ"التركيز على تعليم الخط والتوجيه المستمر والتدريب للتلاميذ، لأن الخط اليدوي يساعد على الكتابة السريعة، بحروف جميلة وأنيقة وعليه تكسب رضا المصحح من حيث إنسيابيته وتنظيمه؛ إضافة إلى أنه يسهم في تعليم الطالب للمنهج، ويجعله يتمعن أكثر، ويصبح دقيق الملاحظة، كما أنه يساعده على الصبر وينمي الكثير من قدراته الفنية والعقلية، ويسهم في قوة الانتباه والتركيز والفهم".
خطي أجمل
ومن خلال خبرته الطويلة في تقديم الدورات بشكل مستمر، والتي أعطاها للكثير من الطلبة وساعدتهم على تذليل الصعوبات التي يواجهونها، ويعمد في أحايين كثيرة لإعادة تصميم الكراسة بيده، حينما يرى وجود مشكلة بسيطة لأحدهم، ويخفق في كتابة أي حرف بيده.. ولشعوره بالمسؤولية تجاه هذه الفئات التي تعاني من سوء الكتابة، شرع الربيعي بإطلاق برنامجه التعليمي والتدريبي الذي يحمل اسم (خطي أجمل) حيث بدأه بكرّاسة واحدة للكبار، موجّها لعشرة مستويات مختلفة، ومبنيّا على خبرة ودراية وأسس علمية، وذلك بإعطاء 20 ساعة تدريبية، وهذا البرنامج يتطرق ويعالج أبرز المشكلات والصعوبات للمتدرب، ويقوم بإصلاحها، وصولا لتحسين خطه.
سحر التناسق والاتقان
ويتطرق ثائر الأطرقجي (خطاط وباحث)، لفن الكتابة بخط اليد، مستعرضا العديد من الممارسات والتدريبات التي تساعد أي شخص في تحسين خطه، وخصوصا أهمية المسافة بين الكلمات.. إذ يقول: "تعتبر كتابة اليد من الفنون الجميلة التي تعكس شخصية الكاتب وتذوقه، وهي مهارة تتطلب التدريب والممارسة المستمرة. ومن أهم العناصر التي تسهم في إضفاء الجمال والوضوح على الكتابة هي الاهتمام بالمسافة بين الكلمات، وتأثيرها على القراءة والتعبير".
الوضوح والقراءة السهلة
ويضيف: "عندما تكون المسافة بين الكلمات مناسبة، يسهل على القارئ التمييز بين الكلمات وفهم المعنى بشكل سريع ودقيق، فالمسافة المتقاربة جدا قد تؤدي إلى اندماج الكلمات، بينما المسافة البعيدة جدا تشتت الانتباه وتجعل القراءة متعبة. كذلك المسافة المتناسقة بين الكلمات تخلق توازنا بصريا جذابا للعين، فهي تضفي على الكتابة إحساسا بالانسجام والجمال، وتجعل النص أكثر جاذبية للقراءة".
التعبير عن المعنى
ويتابع: "ويمكن للمسافة بين الكلمات أن تعبر عن المعنى بشكل غير مباشر. فمثلا، يمكن استخدام مسافة أكبر بين الجمل للتعبير عن توقف في الفكرة، أو مسافة أصغر للتعبير عن العلاقة الوثيقة بين الكلمات. فأسلوب الكاتب في تحديد المسافات بين الكلمات يعكس شخصيته وذوقه الفني. فبعض الكُتّاب يفضّلون المسافات الواسعة التي تعطي انطباعا بالانسيابية، بينما يفضّل البعض الآخر المسافات المتقاربة التي تعطي انطباعا بالدقة والتركيز وهذا ما يبرز شخصيته وهويته".
المسافة المثاليَّة
وعن كيفية تحقيق المسافة المثالية بين الكلمات؟ يقول، الأطرقجي: "إن الاستمرار على التدريب والممارسة، كفيلتان بتحقيق ذلك. فلا توجد قاعدة ثابتة لتحديد المسافة المثالية، ولكن التدريب والممارسة المستمرة يساعدان على تطوير حس بصري جيد لتحديد المسافة المناسبة لكل كلمة. كذلك الاهتمام بنوع الخط، إذ يختلف نوع الخط عن الآخر في احتياجاته من المسافة بين الكلمات، فبعض الخطوط تحتاج إلى مسافات أكبر من غيرها. كما أن الكتابة ببطء وتركيز تساعدان على التحكم في المسافات بين الكلمات وتجنب الأخطاء. فضلا عن الاهتمام بالمسافة بين الكلمات هو جزء لا يتجزأ من فن كتابة اليد. لذا، فإن التدريب المستمر على تحسين هذه المهارة يؤتي ثماره في الحصول على كتابة أنيقة ومميزة".
الجرافولوجيا
بدورها تقدم د. هالة إبراهيم أحمد (باحثة في القياس النفسي والتربوي) بحثا علميا تتناول فيه تحليل شخصية الفرد من خلال خط يده، ويسمى هذا التحليل بعلم الجرافولوجيا Graphology، إذ تقول: "إن هذا العلم هو محاولة منظمة لفحص خط اليد وتحليله؛ لغرض الاستدلال على شخصية الكاتب وأعماقه، أو على الحالات النفسية التي صاحبت عملية الكتابة. كما يوصف بأنه طريقة لتفسير السلوك من الخصائص المميزة في الكتابة اليدوية، والتي تسمى بالكتابة الذهنية. فكل جزء من العقل ينعكس من قبل الفرد في نواح كثيرة، وعليه يتنبأ فاحصو الكتابة اليدوية المحترفون بعلماء الرسم البياني لشخصية الكاتب من خط يده".
علم الخطوط
وتضيف: "إن هذا العلم، هو جزء من العلوم الإنسانية، إلى جانب علم النفس والتربية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية؛ كما هو الحال في هذه التخصصات، فأنها تعتمد طريقة تفسيرية لفهم السلوك البشري، مستخدمة النصوص المكتوبة بخط اليد للتحقيق وإجراء البحوث في دراسة الخط. علما أن علم الخطوط يحدد أكثر من 300 جانب من السمات من خلال فحص الحلقات وتباعد الحروف والميلان والارتفاعات وضربات النهاية وغيرها. ويتم تفسيرها واستخلاص السمة الشخصية للكاتب".
دراساتٌ وأبحاث
فيما يشير الكاتب والباحث الليبي منعم قرنح، إلى أنّ: "الكتابة باليد تفيد ذواكر البشر ونفسياتهم، بل تعدّ رافدا لهم وسط آلام وشرور العالم. كما أنها تعمل على تنشيط ثلاثة مناطق من الدماغ: المنطقة الحركيّة، والمنطقة البصريّة، والمنطقة المعرفيّة". مستشهدا بدراسات وأبحاث البروفيسورة الإسبانية (مارتا أوتشوا)، التي تعمل رئيسةً لخدمة طب الأعصاب في مستشفيات العاصمة مدريد. والتي تعتقدُ بأنّ الكتابة اليدويّة تنشّط العديد من الشبكات العصبيّة، وتعمل على تحسين قدراتنا المعرفيّة. ولها أهميّة كبيرة لدى الأطفال؛ لأنها تشكل لهم تعليما أساسيّا للتطور على المستوى العملي للمهارات الحركية الدقيقة، فضلا عن التنسيق بين اليد والعين، إضافة إلى تطوير القبض والتحكم الحركي. أمّا في حالة البالغين، فهي تعزّز الذاكرة المستقبليّة والشغّالة أو الفاعلة، كما تحفّز الدماغ أكثر عن طريق تنشيط مناطق أخرى؛ كرائحة الورق أو تحسّسه ولمسه.
تنشيط الذاكرة
وبحسب أوتشوا: فإنّ تنشيط الذاكرة، تعد من أهمّ فوائد الكتابة اليدويّة، وهذا النّشاط يحفّز الذاكرة الدلاليّة للإنسان، حيث المستودع والخزّان الذي نحتفظ فيه بكل معرفة ندركها عن العالم. هذا لأنه عند التعبير عنها، لا نفكر في الكلمة نفسها فحسب، بل نفكّر أيضا بالمعرفة وكيفية كتابتها، وأين يجري التأكيد عليها وكيف تتحرك اليد لكتابتها؟ لأن الكتابة اليدوية تحفّز الوظائف التنفيذية المختلفة كالتخطيط، من خلال الاضطرار إلى توقع ما ستكتبه؛ والمرونة، والالتزام بالهامش أو ارتكاب الأخطاء؛ هذه هي الذاكرة الشغّالة، تماما كما نعرف كيف يمكننا الاحتفاظ بفكرة في رؤوسنا.
قناةٌ عاطفيَّة
ويختم الباحث، بالقول: "تشير سيلفيا سينترانو (أخصائيّة علم النفس في معهد Centta)، إلى أنه على المستوى النفسي، فإنّ الكتابة باليد هي قناة عاطفيّة رائعة، تسهّل التعبير دون أي نوعٍ من السّلاسل والقيود أو الحكم أو التقييد، فضلاً عن أنها يمكن أن تساعد في تنمية الإبداع وتنظيم الأفكار. فبفضلها تتّضح المشاعر والشكوك، وسيجد المرء نفسه متشجعا للتعرف على ذاته بشكلٍ أفضل واتخاذ القرارات من أماكن مريحة نفسيّا وواعية عقليّا. وتتحدث عالمة النفس عن كيف يمكن للكتابة اليدويّة أن تفيد الأشخاص المتوتّرين أو القلقين؛ لأنّ القلق يحدث بسبب الاهتمام المفرط بعامل خارجي -أي الأفكار البيئيّة أو الداخلية- فتركيز انتباهنا على شيءٍ آخر يمكن أن يساعدنا. وغالبًا ما تكون الكتابة باليد طريقة مفيدة لجذب الانتباه بعيدا عن هذه الأعراض، والتركيز على ما يكمن وراؤها، كما أنها تساعد على إدراك كنه سبب القلق، أو العاطفة التي نمرّ بها.