حازم رعد
كانت فلسفة الدولة في المدن اليونانيَّة وحتى غير اليونانيَّة في عالم الشرق القديم ترتبط بحدود غايات الهيمنة والسيطرة لرجال السلطة على حدود "المدينة" حتى لو كانت السياسات العامة تعتمد على التعسف والعنف واستبداد الرأي والسلوك، وذلك يشمل حكومات المدن الاوليغارشية وحكومات الطغاة وحتى بعض الديمقراطيات كما هو في اثينا أيام إعدام سقراط ومتابعة فكانت الدولة تخلو بشكل غالٍ من الجانب الأخلاقي، ولا تعتني بالفضيلة والحكمة تلك القيم التي تنشد البحث عن سعادة المواطنين وتحقيق مبدأ العدالة في الدولة، أما مع أفلاطون فالموقف اختلف تماماً، إذ وضع للدولة فلسفتها وحدد لها أهدافها وأولوياتها التي تسعى الى تحقيقها.
ترتبط النظرية السياسيّة عند افلاطون بشكل وثيق بالنظرية الأخلاقية، فغاية الدولة ضبط سلوك الأفراد حسب ما تراه مناسباً لهم على المستوى الأخلاقي "الفضائلي" وتوفير سعادة المواطنين عبر تطبيق العدالة والأخيرة قوام فلسفة السياسة برمتها.
وأفلاطون يعد لذلك الأهمية، لأنّ الحياة اليونانيّة حياة جماعيّة قائمة على أسس مساعدة بعضهم البعض لتخفيف بغض أثقال الحياة عنهم، والتذليل من صعوباتها على أن يكون ذلك داخل المدينة - الدولة، وكون هذا الاعتبار يونانياً لا يمنع من تعميمه ما دام يحمل خصيصة تجاوز عنصري الزمان والمكان، فإن جملة من الافكار والمفاهيم تصلح لأي زمان، ويمكن أن تطبق في أي ظرف (فالحرية والعدالة والخير والسعادة والمصلحة العامة والاعتراف وغيرها من المفاهيم تصلح في كل حاضرة وجغرافيا على اختلاف الزمان).
يعتقد اليونانيون وقد سايرهم افلاطون في ذلك الاعتقاد أنَّ الحياة الصالحة والسلوك الرشيد إنما يكون داخل الدولة، وأن يكون من خلال العمل بقوانينها واعتباراتها التي وضعتها لتنظم شؤون الحياة وعلاقة المواطنين مع بعضهم ومع الطبيعة، ولذا قيل إنّ الإنسان كائن اجتماعي، ولأنَّ الإنسان وحده لا يقدر على مواكبة ركام حاجات الحياة، فلا بدَّ من اجتماعه مع آخرين للاشتراك والعمل على توفير تلك المتطلبات. وهذه الفكرة ضلت أثيرة في فلسفة الدولة على اختلاف حقبها؛ لذا نجد إخوان الصفا في القرن الرابع الهجري يضمنونها في رسائلهم "الإنسان الواحد لا يقدر أن يعيش وحده إلا عيشاً نكداً لأنه محتاج الى طيب العيش من أحكام صنائع شتى ولا يمكن للإنسان الواحد أن يبلغها كلها لان العمر قصير والصنائع كثيرة، فمن اجل هذا اجتمع في كل مدينة أو قرية أناس كثيرون لمعاونة بعضهم بعضا". وأيضا هذا المبدأ الجماعي لتحقيق اغراض الدولة ما زال باقياً لا يمكن التغاضي عنه او التنكّر له، إذ من خلال التواصل يحصل التوافق بين الذوات على العيش المشترك وخدمة الصالح العام الذي هو صالحهم أساساً، ومن ثمَّ يكون الإجماع على أداء ما يسهم في استقرار المجتمع وتمشية الحالة الاقتصادية والاجتماعية بالقدر الممكن.
وعلى أساس ذلك مهمة اختيار أعضاء الحكومة على عاتق فئة من الخبراء والمتخصصين الذين يمتلكون معرفة مختلفة عن سائر الناس، وهنا يقصد بهم "الفلاسفة" فاذا أخذنا بالاعتبار أن اختيار الاعضاء سيكون من داخل بنية المجتمع، فلا بدَّ إذن من اجراء ورش تدريبيّة وتعليميّة للمجتمع عامة وإرغامه على الوعي بمسؤولياته ومصالحه ليكون الاختيار مناسباً، لأنَّ الذين يختارون لشغل مناصب رفيعة في الدولة إذا كانوا سيئين نصل من ذلك الى نتيجة طبيعيّة أن المجتمع سيء لا أقل في اختياراته السياسية، بل ولا يمكن مع ذلك أن نتصور أن مجتمعاً سيئاً يمكنه انتاج حكومة صالحة والى مثل هذا المعنى يشير ويل ديورانت بقوله: "من غير المنطقي أن نطالب بحكومة جيدة لشعب سيء" لأن طبيعة المجتمع تفرض شكل الحكومة على مستوى الأعضاء وكذلك على مستوى تعاملهم بغلظة او بتودد مع المجتمع، ولذلك رفض افلاطون فكرة تجزئه الأخلاق وقسمتها إلى قسمين اخلاق الدولة، وأخلاق الافراد، فالأخلاق واحدة لا يمكن تجزئتها فهي مطلقة وثابتة.
وقد رأى افلاطون أن ادارة الدولة "عِلْمٌ" لا بدَّ أن يعلم ويفهم لكي يتمكن الحكام ورجال السلطة من تدبير شؤونها، فمن غير معرفة لا تستطيع إدارة السلطة فهم حاجات الناس بل ولا تفهم الأطوار التي تقوم عليها سلوكياتهم وطرق تفكيرهم وطموحاتهم، وحجم ونوعية متطلباتهم، وكل ذلك علمٌ يدرس وعلى رجال السلطة تعلّمه وأن يدرّبوا أنفسهم على معرفته.
وهنا أول ما ينبغي على الحاكم ورجال السلطة أن يعرفوا ما هي الدولة، وما هي اشتراطاتها من الحكمة والعدالة والحق، وأن يتعرّفوا على النظرية المناسبة التي تحكم المواطنين، هل هي القوة أو المعرفة؛ لذا يعد افلاطون نظرية "الحق في القوة" ويرفضها تماماً ويجدها سفهاً لا معنى له، لأنَّ واجب الدولة خدمة مواطنيها والعمل على توفير السعادة لهم وذلك يتطلب معرفة وحكمة بالغة؛ ولذا هو يرى أن النظرية التي ينبغي أن تسود الدولة هي "القوة في الحق" ولأجل احقاق العدالة وفعل الخير وتحقيق الحق يحتاج رجل الدولة الى المعرفة.
ولأجل ذلك يشترط افلاطون على مساعدي رئيس الدولة أو مساعدي الرؤساء "المسؤولين" من مستشارين وحراس "ضباط" ألا يكونوا حيوانات شرسة، فيفترسون من هو أقل منهم من طبقات المجتمع وفئاته الاجتماعية المختلفة التي لا تملك سلطة مثل سلطتهم، بمعنى ألا يستغلوا السلطة لتحقيق اغراض تتعلق بالتعسف والاستبداد، بل عليهم أن يتعاملوا بتودد معهم، لأن واجبهم الاساسي هو حراسة مواطني الدولة والسهر على خدمتهم لا الحاق الاذى بهم، وكذلك يرى افلاطون أنه يجب على هؤلاء "من مستشارين وضباط ومساعدين" ألا يثروا انفسهم على حساب الدولة والمواطنين، وأن يتلقوا أجر أتعابهم في خدمة الدولة مثل سواهم من المواطنين ولا يفرّقوا عنهم في شيء "بمعنى أن يعيشوا معهم حياة مشتركة كما يعيشها الجنود والأفراد العاديون". فلا يحق لهم امتلاك أموال طائلة فإنهم عندما ينهمون في تجميع الثروة والأملاك والعقارات سرعان ما يتحولون الى طغاة، وكل ذلك يقوم على أطر معرفيّة فمن لا يعرف لا يمكنه أن يحقق السعادة أو يتوصل الى تطبيق الحق والعدالة، بل سيشط في طريقه عن الصواب. ولأجل أن يكون سلوك الحاكم والسلطوي حكيماً وسديداً لا بدَّ أن ينمَّ عن معرفة لغرض أن توضع الأشياء في أماكنها المناسبة وان يعطى كل ذي حق حقه. وهكذا وكأنما نلاحظ أن افلاطون قد استشرف المستقبل برؤيته تلك عن الدولة فالنص الذي تركه يواء في الجمهورية أو السياسي أو القوانين يمكن ان نستحضر منه ما يعود بالفائدة المعرفيّة والإجرائيّة على مفهوم الدولة في وضعياتنا المعاصرة بشيء كبير، وهذا يدلل على دقة اختيار بعض المفاهيم وإمكان تطبيقها في الواقع، وأيضا تفهم من ذلك أن مفهوم الدولة واحدٌ في النظرية السياسيّة وما اختلف هو المقاربات التي تنظم عمل ودساتير الأنظمة والسلطان في كل حقبة زمنيّة وجغرافيا من المعمورة وإلا فالمفهوم واحد وهو مدار الفعل التواصلي السياسي في تطوراته المختلفة.