عبد الغفار العطوي
في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، كان هناك حدث عظيم بانتظار أن يغير من معالم العالم الإنساني التقليدي، يتعلق بقيام ثورة في الاتصالات، يؤدي نحو ظهور نمط من عمليات التواصل الاجتماعي تختصر المسافات، وتقرب من خريطة العالم، إذ تجعلها أكثر تداولاً وقرباً، عرفت بـ(السوشيال ميديا)، وهي مصطلح يطلق على وسائل تواصل اجتماعي، من حيث هي مجموعة منصات وتطبيقات وأدوات رقمية تسمح لمجموعة من مستخدميها بالتواصل والتفاعل عن طريق المشاركة والإبداع والترفيه والتعلم.
يتناول كتاب (مقدمة إلى وسائل الإعلام الجديدة والثقافات الإلكترونية لبرامود كيه نايار)، تفاصيل هذه الثقافة التي باتت تشكل عالم المعرفة اليوم، وصارت نقطة تحول في حياتنا التي لا يمكننا الاستغناء عنها، مهما حملت من أنماط من التفكير والسلوك، وبالتالي تصورنا عما يحيطنا من أشياء بدت تأخذ موقعاً افتراضياً أكثر مما هو واقعي، لنطلق عليها الثقافات الإلكترونية، ومن حسن الحظ أن نجد من يستطيع قراءتها. في (قراءة الثقافات الإلكترونية)، يوجد تعريف لهذه الثقافات، بحاضنة مجتمع المعلومات، وأن أساس إنشائها كان في بروز العولمة كنتاج تطوري للرأسمالية في ذروة مرحلتها التقنية التي فرضت شكلاً تقانياً متطوراً في عمليات التواصل، والتقارب، واصطباغ مكونات حياة البشر بالسرعة والاختزال، مما استبدل أدوات التعبير في المعرفة في (السوشيال ميديا) من الرصانة الثقافية إلى (التفاهة الثقافية). إن أهم ما في الثقافات الإلكترونية تعريفها بوصفها مصطلحاً مختصراً، لتشمل ثقافات العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين المتشابكة والإلكترونية والمتصلة في ما بينها، أي هي مجموعة دراسات في الإنترنت، ووسائل الإعلام الجديدة، ووسائل الإعلام الرقمية الجديدة، بما فيها الثقافة الرقمية، والثقافة الشبكية ومجتمع المعلومات، هذه المكونات تدور في فلك الفضاء الإلكتروني الذي يتصف بكونه الفضاء الإلكتروني للعوالم والمجالات الناشئة من تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الرقمية، أي أنه منظومة من العلاقات والأفعال داخل فضاء الأجهزة الإلكترونية، ويعزو ميلتون فريدمان في كتابه (الرأسمالية والحرية) لمفهوم الحرية من كونها ذات شقين، الحرية الاقتصادية، والحرية السياسية، الدور المهم لشيوع نمط من الحكومات الحرة، والمجتمعات الحرة التي تشجع هكذا وسائل لخدمة مصالحها الحيوية، عن طريق سياسة معينة في الاحتكار والهيمنة، لهذا كانت (السوشيال ميديا) تخطو خطوات سريعة في (الطوفان الرقمي)، لدرجة لا يمكن للعالم المعاصر السيطرة على تطلعاتها التي لا تحد، وظهر مصطلح (مجتمع المعرفة) الذي لم يستوعب ذلك الطوفان الرقمي بسهولة، مما شكل مظاهر ضاغطة في أزمة راهنة للعقل البشري، فصار د- ألان دونو في كتابه الشهير (نظام التفاهة) صدمة للعقل البشري الذي بات أكثر نمطية، بسبب التطورات المذهلة السريعة في تقانة السوشيال ميديا، وتحذير المعاهد الأكاديمية في أكبر الجامعات العالمية التي تختص بمراقبة تلك الوسائل الجماهيرية، وتقديم النصائح والإرشادات من الفيضانات العارمة لهذه الوسائل التي اعتمدت على فرضية الفردانية في مسألة التوجه نحو الجمهور الرقمي.
د- ألان دونو نعت تلك الوسائل الاجتماعية باعتبارها مجرد مواقع لللقاء الافتراضي وتبادل الآراء لا أكثر، يتكون فيها عقل جمعي من خلال المنشورات المتتابعة، مما يعني خلق معرفة تراكمية لا تخدم سوى مظاهر تدني الثقافة، وأن العقل الذي يواجه تلك المعرفة الفاشلة لا يمكنه إنتاج عالم صحي، في ظل تطور الإعلام الرقمي غير المنضبط علميا وثقافيا (أخلاقيات العولمة)، ولهذا وجدنا العالم الرقمي يخضع لتلك الأخلاقيات الضارة التي تفاقمت مظاهر الثقافة الرصينة من خلال مؤثراتها، لا سيما بعد انتشار تكنولوجيا النانو، فقد أثارت هذه الكلمة التي تعني علم الأشياء الصغيرة، تزايد شغف العالم بها في الآونة الأخيرة، بعد ظهور بداياتها في حياتنا المعاصرة اليومية، وشيوع استخداماتها في كل المجالات العلمية، ومنها الميديا، ووسائل التواصل الاجتماعي وتطورت أدوات تلك الوسائل، لدرجة فقدت فيها الروابط الثقافية والأخلاقية، فباتت أكثر استغلالاً للفرد والمجتمع معاً، ومما زاد من غلواء تلك الوسائل الاستخدامات التي وجهت إليها، بعد انتشار الذكاء الاصطناعي ، وإشغاله مساحات عريضة في قنوات التواصل والثقافات الإلكترونية، من حيث قدرته على خلق البدائل في المواضعات الإعلامية التي تتطلب وجود الحاجة لها، فيكون بذلك إجراء تحولات دقيقة في أهداف الميديا وعلاقتها بالتوجهات نحو الأشخاص المشتركين أو المتابعين من الجمهور. ظهرت السوشيال ميديا في مجال الأمن السيبراني الذي يعتني بأمن الحاسوب، وهو عبارة عن فرع من فروع أمن المعلومات، ويرتبط هذا السوشيال بشبكات معقدة في ظاهرها معدة لغرض يتعلق بأمن الحاسوب وحماية المعلومات والممتلكات من السرقة والفساد أو الكوارث ، لكن تم تحويلها إلى سوشيال تبث كودات تعمل على خرق منظومات الحاسوب و شلها أو تهكيرها، من دون أن يفطن إليها أحد، وهناك نمط من السوشيال يعمل على مراقبة تحركات الأفراد في المجتمع المعني بمراقبته، كما في الصين، لكن ما هو شائع في وسائل التواصل الاجتماعي، هو تكريس ثقافة التفاهة والانعزال والفردانية، والتجسس والمراقبة في أنحاء الاتجاهات الممكنة الممثلة لحياتنا، وجميع الأعمال المتصورة في نشاطاتنا اليومية، في ظل غياب القوانين الصارمة والرادعة التي تحول دون تمزق بنية أي مجتمع وانهياره، ولعل تعميق دراسة الفلسفة في مجتمعاتنا الراهنة وتنمية قدراتها النقدية، يعيق ظاهرة الاستفحال والتطاول في تطور تقنيات السوشيال وكبح جماحها في عمليات انهيار عالمنا، وخضوعه لتوجهات (الأخ الأكبر) الذي يراقب حركاتنا بدقة ويسجل حماقاتنا وأخطاءنا ويضخمها في بؤرة نقاط المنافع التي تتوخاها السلطة العالمية التي وظفت كل وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الجديدة والثقافات الإلكترونية كي تنجح مخططاتها في الهيمنة العالمية على مقدرات كوكبنا. في كتاب ( الفيسبوك والفلسفة - دي إي وتركوور)، نلمس الخطوات الحثيثة المتأنية في تأسيس أعمق أدوات للتواصل الاجتماعي، التي راحت تشق طريقها نحو إنشاء مجتمع المعرفة الذي حول عالمنا بكل تفاهة لمجتمع يعتمد 100 % على السوشيال، ابتداء من توطين فلسفة للمعرفة إلى الحروب السيبرانية التي تتخذ من أدوات التعرفة البشرية علامات في قتل الأفراد المطلوبين، عن طريق بصمات الوجه والأصابع والعيون والأصوات إلخ. لنتأمل في السوشيال الرقابية في الصين التي تعتمد على وسائل المراقبة والرصد، بما يسمى السوشيال (نظام الرصيد الاجتماعي)، أو الأخ الأكبر يراقبك، (مستمد من رواية جورج أورويل 1984 الشهيرة )، ومدى التسلط التقاني على حرية الإنسان .