مرتضى الجصاني
لا يخفى على أحد أهمية الفنان شاكر حسن آل سعيد في مجال الفن التشكيلي والحروفي وكذلك في التنظير لهما، أقصد التنظير للفن التشكيلي وللفن الحروفي وربما يستغرب القارئ عن الفصل بينهما، لكن الحقيقة أن الفن التشكيلي أو الفن الصباغي كما يروق لمناطق المغرب العربي تسميته، هو فن مختلف عن الفن الحروفي فهو الكل والفن الحروفي الجزء، بمعنى أن الكل يحتوي الجزء والعكس ليس صحيحاً، ذلك يعني أن الفن الحروفي هو أحد أصناف الفن التشكيلي لكنه ليس ذات الفن التشكيلي، أقول هذا لأدخل في تفصيلة فنية لا أقول إنها شائكة ولا عصيَّة على القراءة، لكنها خضعت لأهواء الناقدين كثيراً، كل يقرأ من زاويته وخلفياته وعواطفه، وهنا أقصد قراءة تجربة الفنان الرائد شاكر حسن آل سعيد في الحروفية من حيث التنظير والعمل الفني، بيد أن القارئ الحقيقي لتنظيرات آل سعيد والمتابع لأعماله بدقة سيلاحظ "البون" الواسع بين التنظير وبين اللوحة، لا أقول يجب أن يتطابق التنظير مع العمل بنسبة مئة بالمئة، لكن يبدو أن نظرية الحروفية عند آل سعيد لم تنضج للحد الذي تتضح له الرؤى بشكل جليّ ليتناغم التنظير مع العمل الفني، فإذا تتبعنا أعمال آل سعيد منذ عودته من باريس واهتمامه بالحرف سنجد استخدام آل سعيد للحرف هو استخدام تشكيلي، معتمد على سيميائية الحرف كجزء من اللوحة الأثر، وغالباً يظهر الحرف في لوحته بشكل كتابي.
وهناك من يضع الحرف رسماً وخطاً وكتابة وتمويهاً في خانة واحدة وهي الحروفية، غافلين عن اشتقاق مجالات أخرى لاستخدام الحرف، كفن الكاليگراف واللوحة التشكيلية الخطية واللوحة الخطية التشكيلية ..الخ، متجاوزين أيضاً فن الخط العربي كفن له قواعده الراسخة في الجماليات، لأن الحروفية محددة باستخدام الحرف بتقنية خاصة، كما لها موضوع خاص غالباً يتم التعبير من خلال الحرف وليس من خلال السطح العام للوحة، بينما نجد الفنان آل سعيد يتعامل مع الحرف بشكل عام، دون الالتفات لهذه الاختلافات والتفاصيل المهمة التي تُسهم في تكوين بنية اللوحة ومعنى العمل الفني، ومن هنا كانت لوحته ولوحات أغلب مجايليه ممن استخدموا الحرف غير مهتمة بالتمييز بين هذه التفاصيل الملتبسة والمناطق الفنية المتاخمة بعضها لبعض، باستثناء أعمال الفنان رافع الناصري، والجدير بالذكر أن موضوع عدم الالتفات لهذه التفاصيل كان موجوداً أيضاً في جانب الخطاطين الذين حسبوا أن أعمالهم حروفية، بينما يمكن أن نصفها أنها أعمال خطية أو خطية تشكيلية.
من جانب آخر نلاحظ أن الفنان شاكر حسن آل سعيد دعى إلى أهمية الحرف في اللوحة، ولم يسمِّ اللوحة الناتجة ولم يحدد شكل وتقنية الحرف، بل كان مهتماً في ترسيخ نظرية البعد الواحد وتشكيل هوية فنية، حيث لم يحدد ماهية التقنية في اللوحة، والتي يتضح فيما بعد أن قطب الاختلاف هو التقنية المستخدمة في إظهار الحرف، إضافة إلى موضوع اللوحة، مما جعل تجميع الحرف خطاً ورسماً وكتابة وتمويهاً في خانة الحروفية، وهذا خلق نوعاً من الالتباس واللغط كان ومازال محط جدال. لم يحدد آل سعيد مصطلح الحروفية ولم يستخدمه، إذ يبدو أن هذا المصطلح جاء فيما بعد من نقاد فنيين، حيث يرون أن رائد الحروفية هو شاكر حسن آل سعيد، بينما لم نجده يتبنى هذا المصطلح وربما استخدمه بشكل ثانوي أو توضيحي وليس كعنوان، بل تبنى نظرية مختلفة، واستخدام الحرف لا يعني أن العمل حروفي، حيث يقول آل سعيد عن ماهية البعد الواحد :"إن ممارسة الحرف في الفن التشكيلي تبدأ في الأصل عند الفنان الحديث كمناورة لتكوين مناخ جديد زاخر بإمكانيات رمزية وزخرفية معاً".
ثم يقول :"بيد أن مشكلة الحرف كقيمة تشكيلية بحتة وليس كبناء موضوعي مجرد". ويتابع "ومن هنا فإن الكشف عن أهميته كبعد وليس كموضوع يصبح بالتالي هو بيت القصيد". إذن ما يريده ويبحث عنه الفنان شاكر آل سعيد هو الشكل الكتابي للحرف كقيمة شكلية للوصول إلى معنى الخط، وهو بذلك تجرد وتجاوز القيم الجمالية والدلالية في تقنية الحرف كشكل وكموضوع أيضاً، وأن هاتين الصفتين هما مرتكز اللوحة الحروفية، لذا فإن استخدام الحرف في اللوحة لا يجعل العمل حروفياً، ولذلك أفضل كثيراً اقتراحات المجالات المجاورة للفن التشكيلي من الاستخدام الحروفي، لأنها تعطي تفسيرات منطقية وفنية أكثر وصفاً وأكثر دقة، وربما هذه الفوضى في توصيف الحروفية الفنية، حدّت من تطلعات وتطوير مصطلح الحروفية كما يجب أن يكون، في الجانب العملي والنظري.
فاستخدام آل سعيد للحرف ضمن مشروع "الجدرانية" بكل تفاصيل الجدار من زينة أو من مخلفات الزمن والتعرية هو عمل تشكيلي، يستلهم الحرف كقيمة كتابية، شكلية، تشكيلية، ضمن موضوع الجدار أو الأثر، وهذا ينطبق على المجموعة الكبيرة التي استلهمت الحرف بصيغ مختلفة من حيث الشكل المجرد أو من حيث الموضوع والتأويل، ولم تلتفت هذه المجموعة من الفنانين إلى تقنية الحرف ومكانة الحرف على سطح اللوحة، بالتالي اتخذت نظريات الفنان شاكر حسن آل سعيد باتجاه حروفي للوحة وليس كما يقصد بها كقيمة كتابية شكلية، متناسين تصنيف العمل الفني ضمن الحالات التي ذكرناها سلفاً.