الأخلاق والسياسة في الشرق الأوسط: جدليَّة السلطة والتضامن الإنساني

آراء 2024/10/31
...

 أحمد حسن 

إن المأساة التي نراها ليست فقط في القتل والدمار، بل في غياب التضامن بين الناس. ففي لبنان، نرى كيف يتقاذف الناس الاتهامات، وكيف تتناثر كلمات الحقد بينهم وكأنهم أعداء لا يجمعهم دين ولا لغة ولا وطن. وما هذا إلا دليل على الانهيار الأخلاقي الذي تحدث عنه روسو. فحينما يفقد الإنسان بوصلته الأخلاقية، يصبح كالسفينة التي تتخبط في بحر هائج بلا دفة توجهها.


في زمننا الحاضر، تُرتكب جرائم وفظائع مروعة في غزة وجنوب لبنان، مما يطرح أمامنا سؤالاً أخلاقياً لا مفر منه: كيف يمكن للسلطة الدولية، المتمثلة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها، أن تكون أداة لحماية البشر إذا لم تكن قائمة على أسس أخلاقية متينة؟ هنا، نستدعي مقولة أرسطو، الفيلسوف العظيم، الذي حذّر من أن أكبر تهديد يواجه السلطة هو "الانحراف الأخلاقي". فعندما تنحرف السلطة عن طريق الخير، وتُقاد بالأهواء والشهوات والمصالح، تصبح خطراً على نفسها قبل أن تشكل تهديداً لشعوبها. وهذا ما نراه اليوم من إدارة بايدن وحلفائها الغربيين الثلاثة (فرنسا، بريطانيا، وألمانيا)، إذ يسخرون كل الوسائل لتحقيق رغبات نتنياهو وجماعته في القتل والتدمير الممنهج للبنى التحتية.

إننا نشهد في غزة ولبنان ما كان أرسطو يخشاه، إذ تحوّلت السلطة الدولية، التي كان من المفترض أن تكون حصناً يحمي الشعوب الضعيفة عسكرياً وغير القادرة على حماية أرواحها وممتلكاتها، إلى أداة تمزقها إرباً. فالسلطة الدولية بقيادة أميركا والدول الكبرى لم تعد حامية للناس، بل صارت سيفاً مسلولاً يُستخدم ضدهم، تتحكم فيه النزاعات الأيديولوجية وتتلاعب به قناعات الأفراد الحاقدة على كل جماعة، وعلى كل ما هو أقوى وأفضل من الفردانية التي تسعى واشنطن وحلفاؤها إلى ترسيخها عبر نشر الليبرالية الحديثة. وما أكثر صحة ما ذكره أفلاطون في "الجمهورية"، حيث أشار إلى أن انشغال الحكام بمصالحهم الخاصة يؤدي إلى فساد المدينة وتآكلها من الداخل.

إن الحرب العشوائية التي تضرب بأوطاننا هي حرب لقيمنا وأخلاقنا، وهي حرب لانتزاع إنسانيتنا وجعلنا عراة بلا أخلاق ولا ضمير، بل يُراد بنا أن نُدمج بالقوة والتهديد بقيم الليبرالية الأمريكية الغربية، وتحويلنا إلى أرقام وليس إلى بشر. وهنا، نحتاج إلى العودة إلى حكمة ابن خلدون، الذي أكد في مقدمته الشهيرة أن "العصبية" هي القوة التي تُبني الدولة وتحفظ تماسك المجتمع. فالعصبية، في هذا السياق، تُعتبر الرابط الحيوي الذي يجمع بين أفراد المجتمع، مما يُمكنهم من مواجهة التحديات ككتلة واحدة. ولكن، أين نحن اليوم من تلك العصبية التي تحدث عنها ابن خلدون؟

في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين على وجه الخصوص، نرى كيف تتفكك العصبية أمام أعيننا، وكيف يتشتت الناس، لا بسبب العدو الخارجي فقط، بل بسبب الصراعات الداخلية التي أكلت الأخضر واليابس. لقد باتت الكراهية تنمو في القلوب كالنار في الهشيم، فتلتهم كل بذور التضامن الإنساني. وهنا نستذكر قول جان جاك روسو: "الإنسان المتوحش" هو ذاك الذي يتخلى عن قيمه الأخلاقية في سبيل مصالحه الضيقة. وهل هناك وحشية أعظم من تلك التي نراها في مجتمعاتنا اليوم؟

إن المأساة التي نراها ليست فقط في القتل والدمار، بل في غياب التضامن بين الناس. ففي لبنان، نرى كيف يتقاذف الناس الاتهامات، وكيف تتناثر كلمات الحقد بينهم وكأنهم أعداء لا يجمعهم دين ولا لغة ولا وطن. وما هذا إلا دليل على الانهيار الأخلاقي الذي تحدث عنه روسو. فحينما يفقد الإنسان بوصلته الأخلاقية، يصبح كالسفينة التي تتخبط في بحر هائج بلا دفة توجهها.

وفي تحليل ماكس فيبر للعلاقات الاجتماعية والسياسية، نرى أنه يشير بوضوح إلى أن النزاعات الداخلية هي السيف الذي يقطع أوصال المجتمع، وأن غياب القانون والانضباط يؤدي إلى تآكل شرعية الدولة ومؤسساتها. وفي الحالة العراقية واللبنانية، تتفاقم هذه النزاعات بسبب الفوضى والعنف الداخلي، مما يجعل المجتمعات أكثر ضعفاً أمام التهديدات الخارجية.

لقد كان توماس هوبز في كتابه "الليفياتان" واضحاً في تحذيره من الفوضى، إذ قال إن غياب السلطة الشرعية والقانون سيؤدي إلى حالة من "حرب الجميع ضد الجميع". وهذا ما نراه اليوم، حيث يبدو أن الدولة أصبحت عاجزة عن حماية مواطنيها، وأصبح العنف هو اللغة السائدة بين الناس.

وفي هذا السياق، نجد أن المفكر الإيراني علي شريعتي قد أصاب كبد الحقيقة حين قال إن المجتمعات التي تفقد بوصلتها الأخلاقية وتستسلم للظلم الداخلي تكون عرضة للسقوط والانهيار. فالأمم التي تنخرها الصراعات الداخلية تضعف، ويصبح من السهل على القوى الخارجية أن تسيطر عليها.

ولعلنا إذا أردنا الخروج من هذه الأزمات المتلاحقة، يجب أن نعود إلى القيم التي دعا إليها المفكرون الكبار عبر التاريخ. فكارل ماركس، في تحليله للعلاقات الطبقية والسلطة، يشير إلى أن المجتمعات التي تعتمد على استغلال الفئات الضعيفة والتمييز الداخلي تصبح عرضة للانهيار. وهذا يتفق مع رؤية ابن خلدون حول سقوط الدول نتيجة تفكك العصبية التي تشكل الأساس الذي يقوم عليه المجتمع.

كما يؤكد الفيلسوف العربي الكبير الفارابي في "آراء أهل المدينة الفاضلة" على أهمية تأسيس الدولة على مبادئ أخلاقية تهدف إلى تحقيق سعادة المجتمع، مما يتطلب من الحكام أن يكونوا حكماء أخلاقيين يسعون لخير الجميع، لا لمصالحهم الخاصة.

إن الحل لا يكمن في القوة وحدها، بل في إعادة بناء القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تضمن حقوق الجميع. فالقوة قد تكون حلاً مؤقتاً، لكنها لن تؤدي إلا إلى المزيد من الدمار إذا لم تكن موجهة برؤية أخلاقية واضحة. على قادة الشرق الأوسط أن يدركوا أن السبيل الوحيد للخروج من هذه الدوامة هو بناء مجتمعات قائمة على التضامن والعدل، وأن السلطة إذا لم تكن محكومة بالقانون والقيم الإنسانية، فإنها ستنحرف إلى طريق الهلاك.

إن الحرب المدمرة التي نعيشها اليوم ليست مجرد أزمة ضعف سياسي أو عسكري، بل هي في جوهرها أزمة أخلاقية عميقة. يجب علينا أن نعيد النظر في طريقة فهمنا للسلطة، وأن نعمل على إعادة بناء مجتمعات تقوم على قيم التضامن الإنساني والمواطنة. لقد قال ابن خلدون وماكس فيبر وغيرهما من المفكرين إن الأمم لا تنهض إلا إذا كانت محكومة بقيم أخلاقية قوية، وإلا فإنها ستظل تتخبط في دوامة من العنف والفوضى والانقسام.

يمكن أيضاً الاستعانة بكلمات ابن رشد الذي قال: "إن الفيلسوف هو الذي يسعى لتحقيق التوازن بين المصلحة العامة والفردية"، مما يعكس الحاجة إلى إعادة التوازن بين السلطة وحقوق الأفراد، مما يشير إلى أهمية الأخلاق في بناء مجتمعات سليمة.