مؤيد أعاجيبي
في صباح ذلك اليوم، تلاشى صوت صياح الديك تدريجيًا، وتحول إلى نغمة نشاز، كأنه أدرك قرب فراقه لموطنه "بيت سقراط"، الذي نشأ هو وسقراط فيه معًا، مستعدًا للتضحية في سبيل سداد دين صاحبه من دون تردد. عندما عادت السفينة التي أبحرت إلى جزيرة ديلوس تكريمًا للإله أبولو، لتُعيد أثينا التزامها بالقانون الذي يفرض أن تظل طاهرة، ويمنع تنفيذ أي حكم إعدام باسم الدولة قبل رحيل السفينة وعودتها. لكن السفينة تأخرت بسبب الرياح والتيارات وغيرها من العوائق التي نسجت الآلهة خيوطها.
الآن، صار بالإمكان تنفيذ حكم الإعدام على المحكومين، ومنهم سقراط، في مطلع الدورة الخامسة والتسعين للأولمبياد.
يُعد سقراط، المحكوم عليه بالموت، من أبرز الشخصيات في تاريخ الفلسفة، عاش في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. وبحسب ما ورد في محاورات أفلاطون، يظهر سقراط لنا كحكيم يدعو إلى التوازن النفسي والاعتدال والقناعة في الحياة، وهي صفات أكد عليها أيضًا اكزينوفون، وأظهر لنا صورة سقراط معلماً رائداً في علم الأخلاق، ناقماً على مجتمعه وناقداً لأبناء وطنه.
ووفقًا لشيشرون، يُعد سقراط "أبًا للفلسفة"، وهذا في جوهره شكل من أشكال النقد الفلسفي، الذي كان يظهر بوضوح في حياته اليومية. لكن هذه الانتقادات جعلت المؤسسة الدينية توجه ضده تهمًا، كان أبرزها إفساد الشباب. في حين أن أفلاطون قدم القضية باعتبارها مسألة تغيير في معتقداتهم ودينهم، إلا أن جوهر محاكمة سقراط مرتبط بمسألة الشذوذ، وهي زاوية لم يلتفت إليها الباحثون، لأن أفلاطون - الذي كان تلميذه الوحيد الذي نقل لنا تفاصيل محاكمته- اختار تجنب هذه الإشارة، محاولًا إبقاء صورة أستاذه نقيّة، خصوصًا بعدما ذاع صيت سقراط وأصبح معروفًا في جميع أرجاء اليونان القديمة. صوّر جاك لويس ديفيد مشهد سقراط الأخير بعد قرون عدة، لكن أفلاطون قدمه أولًا في محاورة الدفاع واقريطون وبعض من محاورة فيدون، وهي الشهادة الوحيدة المتاحة حول يومه الأخير. كانت المجموعة المحيطة بسقراط صغيرة، مثل فيدون، الراوي الأساسي، وأبولودوروس، وانتشينيز مؤسس الكلبية، والصديق اقريطون، وابنه كريتوبول، وكان بإمكان هؤلاء الحاضرين نقل ما حدث بشكل مباشر، لكن لم تصلنا أي رواية منهم. أما أفلاطون فكان مريضًا ذلك اليوم ولم يكن حاضراً، واعتذر عن غيابه عبر شخصية فيدون بداعي الوهن، والعذر قد يبدو غير مقنع تماماً لمن يفكر في أهمية وداع كهذا، وينبني على هذا الأمر أن كل ما نعرفه عن آخر يوم من حياة سقراط مبني على شهادة أحد الغائبين، ولم يحدد افلاطون كيف عرف هو نفسه بالقصة إلا "إذا كان مثل أبي علي الشيباني". لم يدافع سقراط عن نفسه كأي مواطن أمام المحكمة بتهم دينية وسياسية خطيرة قد تصل إلى الإعدام، لكنه في الوقت نفسه لم يتجاهل الاتهامات تمامًا، فقد نفى كفره بالآلهة وأي تأثير سلبي له في الشباب، ووصف التهم بالسخيفة والباطلة، مؤكدًا أنه بريء. غير أن أسلوبه وطريقته في الرد جعلا القضاة يتجاهلونه، ما اضطرهم إلى اتباع إجراءات القرعة التي كانوا في غنى عنها لو دافع سقراط بطريقة صحيحة، وكان عددهم حوالي 501 قاضٍ.
بعد مداولات طويلة، حكمت المحكمة على سقراط بالإعدام، تاركة له حرية اختيار طريقة موته. ورغم أنه كان بإمكانه طلب العفو أو النفي، اختار سقراط ألا يهرب وقرر قبول الحكم بروح ثابتة. فقد رأى في رفضه للهروب التزامًا بمبادئه الفلسفية، إذ كان يؤمن باحترام القوانين، حتى وإن كانت ظالمة، والتي تمثل جزءًا من العدالة التي يجب الالتزام بها. وبهذا الموقف، اختار سقراط سم الشوكران ليكون نهاية لحياته. في اليونان القديمة كان المدانون في الجرائم الدينية أو السياسية يُلقَون عادةً من صخرة مرتفعة إلى حفرة تُعرف بـ"البرثرون"، تُستخدم هذه لجمع جثثهم لتجنب تدنيس المدينة. والطريقة الأخرى هي أن يُصلب المحكوم عليه بعد تقييده من الرقبة والمعصمين والكاحلين، وهناك طريقة أخرى يُضرب فيها بعصا حتى الموت، ويترك واقفًا على لوح خشبي لتفترسه الغربان والحيوانات. ولم يتم ذكر تجرع السم من ضمن العقوبات آنذاك.
عندما أُتيح لسقراط اختيار طريقة موته، كان ذكيًا جدًا في اختياره شيئًا غير شائع أو معروف. ويشير بعض الباحثين إلى أن هذا الاختيار كان بهدف تخليد ذكراه بطريقة مميزة تختلف عن أولئك الذين سبقوه من المحكومين. لذا أصبح سقراط هو الأول الذي يُعرف بموته بالسم، وأصبح هذا الأمر مرتبطًا باسمه.
إن اختيار سم الشوكران الباهظ الثمن والصعب التحضير ليس اختياراً عبثياً من قبل سقراط، وفي الوقت نفسه نحن لسنا على دراية تامة بالتركيب الدقيق للخليط الذي تناوله سقراط. يُقال إنه تناول الشوكران على شكل مسحوق يحتوي على مركبات شديدة السمية. هذا الشوكران، المعروف بالشوكران الكبير أو الشوكران السام، ينتمي إلى عائلة الخيميات ويحتوي على مادة الكونين، وهو مركب شبه قلوي سُمّي نسبةً إلى الاسم اليوناني للنبات “konion”. هذه المادة تُسبب اضطراب الحواس من خلال تعطيل الجهاز العصبي المحيطي، تليها حالة من الشلل المتصاعد الذي يؤدي إلى اختناق قاتل كما يذكر ساندرين الكسندار.
اختيار سقراط للشوكران كان له سبب آخر، وهو أنه يمنحه راحة نفسية وهدوءًا جسديًا، ما يساعده في الحفاظ على ثباته وطمأنينته أمام تلاميذه، دون أن يظهر أي خوف أو ما يدل على خوفه من الموت. الشوكران، مثل الأفيون، يمنح هدوءًا للنفس ويُبعد الخوف. وعندما أخبره تلميذه أقريطون بوصول السفينة، ابتسم وقال: "الآن أودعكم أيها الأصدقاء". ثم تناول السم وبدأ في السير لينتشر السم في جسده، دون أي تردد أو اضطراب. كذلك نهى الجميع عن البكاء، مؤكدًا أن البكاء هو علامة الضعفاء. حتى توفي في الصباح الباكر.لا شك أن أفلاطون قد صوّر موت معلمه بطريقة مجمّلة؛ فلم يتطرق إلى الجوانب المؤلمة للاحتضار.