بهاء محمود علوان
كانت لأعمال الكاتب الألماني الكبير فريدرش شيلر، الذي يعد مع نظيره الكاتب والشاعر فولفكانك غوته أهم ممثلي الحركة الكلاسيكية الألمانية، التأثير الكبير في أعمال برتولت برشت، حيث كان ذلك التأثير إلى جانب عوامل ومؤثرات كثيرة أخرى إسهاماتها الكبيرة في صياغة شخصية برتولت برشت المسرحية، والتي قادت فيما بعدْ إلى صياغة المسرح الملحمي. وكان لشخصية شيلر تأثير كبير في الكاتب المسرحي برتولت برشت سواء من حيث المعالجة التقليدية أو من حيث تركيبة الشخصية الثقافية، والتي كرَّست روح النظرية الجدلية والمحاججة في أعمالهِ.
يتناول الكاتب (ماير) تلك العلاقة وذلك التأثير البائن فيقول: إن هذه العلاقة بين برشت والأعمال الكلاسيكية الألمانية وبالأخص منها تلك الأعمال التي كانت تمثل جذوة الكلاسيكية الألمانية، والتي تمثلت بأعمال الكاتب الكبير (فريدرش شيلر)، كانت علاقة ذات سمات فكرية متقاربة الرؤى التي تمثل بعض المفاهيم الإنسانية الملقاة على عاتق الحركة الأدبية بالعموم، والحركة المسرحية بالخصوص. إن ما يتم تناولهُ في الآونة الأخيرة من محاولة الربط بين تلك الأعمال الكلاسيكية و أعمال برشت لمْ تكن في السابق محل دراسة واهتمام. ويعد ما قام بهِ (سيلكه ميلر) من محاولة لإيجاد تلك الوشائج هي التي ستساعدنا والأجيال القادمة أيضاً على رؤية المعنى المحدد لبرشت في أدبنا بشكل أكثر دقة. لقدْ أصبحت الجدالات والحوارات الدائرة حولَ هذهِ الوشائج بين الكاتبين الكبيرين في الوقت الراهن، والتي تحاول مد الجسور بشكلٍ عميق بين أعمال شيلر و أعمال الكاتب الشيوعي برتولت برشت، محط اهتمام ودراسة كبيرتين، هذا لأن لبرتولت برشت أثراً كبيراً في الحركة الأدبية الألمانية كونه شاعراً، وأديباً، ومخرجاً مسرحياً، وكذلك ممثلاً لامعاً.
إن ما قالهُ الكاتب المسرحي السويسري (ماكس فريش) يبدو متوافقاً مع ما جاء على لسان الكاتب (فريدرش دورنمات) حول برشت، وكذلك حولَ شيلر كونهما يدعوان إلى توظيف الأدب وتسخيره لخدمة المجتمع. إن من أهم العناصر التي لم يكن (دورينمات) يتقبلها، أو كان منزعجاً منها عند برتولت برشت هي نظرية (التغريب)، التي نظّرَ لها برتولت برشت والتي لم تكن موجودة في أعمال سلفهِ فريدرش شيلر.
من جانبٍ آخر، نجد أن برشت نفسه قدْ أكدَ في أكثر من مناسبة، بأنه لا يريد أن يتحدث باسم الأخلاق، بل باسم المتضرر، كما فعل في اقتباسه لرواية (كولهاس). ومع ذلك، أراد أيضاً أن يُنظر إلى مسرحه الملحمي على أنه (مؤسسة أخلاقية). وفي الاقتباس التالي يحاول برتولت برشت التمييز بين مفهوم شيلر للمسرح التعليمي و مفهومه: (ووفقاً لمفهوم فريدريش شيلر حول المسرح، فإنهُ يقول: (يجب أن يكون المسرح مؤسسة أخلاقية). وعندما عملَ شيلر لإثبات ذلك المفهوم، لم يخطر بباله، أن إلقاء المواعظ الأخلاقية على المسرح، قدْ يتسبب في ابتعاد الجمهور عن المسرح، وعدم تفاعلهم معه في ذلك العصر. ولم يكن في ذات الوقت لدى الجمهور أي اعتراض على الوعظ الأخلاقي، بل على تقبل تلك المواعظ على خشبة المسرح. وفي وقت لاحق انتقد الفيلسوف (فريدريك نيتشه) ما قام به فريدرش شيلر حول مفهوم الأخلاق على خشبة المسرح، وصوره كـ (عازف البوق) الأخلاقي (حسب مفهوم نيتشه لِما كان يقومُ بهِ شيلر على خشبة المسرح). ونجدُ الحال نفسه في ما يتعلق بالمسرح حينَ انقلب الكثيرون ضد هذا المسرح وما أسس لهُ، زاعمين أنه أخلاقي للغاية. بينما احتلت النقاشات الأخلاقية في المسرح الملحمي المرتبة الثانية بعد التركيز الواضح والجلي حول فقدان الحقوق والمظلومية التي يتعرض لها غالبية المجتمع. ومع ذلك، تمت دراسة المفهوم الأخلاقي في المسرح البرشتي بشكلٍ مستفيض للغاية.
إن الجسور المشتركة بين أعمال برتولت برشت وأعمال فريدرش شيلر تأتي من خلال التثقيف والتنظيرُ للأخلاق عند كلا الكاتبين، كما نجد تلك الجسور والوشائج من ذلك الكم الكبير من نقاط الالتقاء عند الكاتبين، في الهدفِ وفي الأسلوب، وإن اختلفت بعض الأدوات المسرحية عند كليهما.
لقدْ كان الغرض من دراسة الوشائج والجسور الممتدة بين أعمال شيلر وبرشت هو إيجاد حلول يمكن أن تقضي على اللبس الحاصل للمفهوم الأخلاقي لدى الشاعرين، وإن اختلفت الأساليب والأهداف. وهنا لابدَ من الإشارة إلى ما جاء على لسان برتولت برشت حين قال: (لم نتكلم باسم الأخلاق، ولكن باسم الأطراف المتضررة. وهذان شيئان مختلفان تماماً، لأن النصيحة الأخلاقية غالباً ما تُستخدم لإخبار أولئك الذين تعرضوا للأذى بأن عليهم أن يتصالحوا مع وضعهم.، بل أن يستسلموا للظروف التي وضعتهم بموضع الضحية). أما بالنسبة لمثل هؤلاء الأخلاقيين، (فإن الناس موجودون من أجل الأخلاق، وليس الأخلاق من أجل الناس). وهنا يمكننا الربطُ بين العامل الأخلاقي والملحمية على خشبة المسرح، إذا سلمنا بأن المسرح هو مؤسسة أخلاقية.
وعلى الرغم من أن برشت كان قريباً جداً من مسرح شيلر كمؤسسة أخلاقية، إلا أنه لم يرغب في أن يُفهم على أنه (كلاسيكي)، لأن الكلاسيكيين كانوا ممثلين للبرجوازية. الكتابة تعني بالنسبة لبرتولت برشت هي (محاولة لجعل بعض المقترحات أكثر أخلاقية، كما أنهُ يمكننا من خلق النوع الجمالي الدائم للأشياء، ويمكننا من خلال ذلك من إعطاء شيء نهائي وحاسم، وبالتالي فهو يعدُ في نظرهِ، (محاولة الفصل لتحديد الفترة الزمنية المتمثلة بإعطاء شكلٍ محدد للنهايات).
ختاماً يمكننا القول إن مسرح برشت، كما وصفه برشت نفسه: على أنه (المسرح كمؤسسة أخلاقية) له سمات كلاسيكية، كما أن برشت يرى نفسه خليفة لشيلر، فقد كسر التقاليد في بنية شخصياته.
المصدر:
فصل من أطروحة دكتوراه للباحثة الألمانية بريكيتا فولفا- جامعة بورتلاند