محمّد صابر عبيد
تشغل المدينة حضوراً متميزاً ولافتَ الدلالة والقيمة في الفنّ الروائيّ، وذلك لأنّ جنس الرواية هو وليد إبداعيّ للمدينة/المكان، إذ إنّ تعقيدات المدينة وتداخل معطياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحضارية تسهم على نحو فعّال في رفد الرواية بالكثير من المساحات الفنية والموضوعية المؤهلة لصناعة العمل الروائيّ.
وفي الوقت الذي يعتمد الكثير من الروائيين فيه على المرجعية الواقعية للمدينة وتقديمها في رواياتهم بما تنطوي عليه من كثافة وعمق وحيوية ونشاط وتنوّع، إلا أنّ اشتغالهم على نقل الفضاء المكانيّ المدينيّ من حيّز الواقع إلى فضاء التخييل يعدّ من أبرز معالم التشكيل المكانيّ الروائيّ، على النحو الذي تبدو فيه (مدينة الرواية) غير (مدينة الواقع) تماماً على الرغم من احتفاظ مدينة الرواية باسم مدينة الواقع نفسه
أحياناً.
وإذا كان بعض الروائيين يسعى إلى ابتكار مدن جديدة بأسماء جديدة لا وجود لها إلا في عالم الرواية المتخيّل، على النحو الذي يتلاءم مع طبيعة المقولة الروائية التي يجتهد في تكريسها ضمن مدوّنته الروائية، فإنّ البعض الآخر - ربما الأكثر نسبة - هو الذي يفضّل استخدام أسماء مدن معروفة لتوفير رؤية حجاجية أقوى لعمله في منطقة التلقّي، غير أنّ هذه المدينة ذات المرجعية الواقعية لا تحتفظ بالكثير من ثقل المرجع المكانيّ والفضاء الرؤيويّ والمعنى التاريخيّ، لأنّ الاشتغال الروائيّ على هذا المكان ينقل المدينة من حاضنتها المرجعية إلى حاضنة جديدة تخصّ مجتمع الرواية وحساسيتها وفضاءها السرديّ.
تتمتّع المدينة الروائية التي هي مدينة ((رؤيا سردية)) بقوّة حضور مكانية عالية المستوى في الرواية، بوصفها أحد أبرز عناصر التشكيل الروائيّ الذي يسهم في إقامة المعمار الفنيّ لهيكل الرواية الخارجيّ والداخليّ، فللمكان الروائيّ سيرته وشخصيته ورؤيته وحساسيته وحضوره وطبيعته ونكهته وطرازه وحياته الخاصّة، وتجري العناية به من لدن الراوي بأعلى درجات الدقّة والعناية والاهتمام والتوصيف والتشكيل والفهم، بحيث يتحوّل بين يديه إلى قيمة سردية عليا تتفاعل وتتداخّل وتتضافر مع عناصر السرد الأخرى، إذ يسهم المكان هنا في توجيه العناصر السردية الأخرى وتكييفها ودفعها لفتح قنوات دائمة الحركة والفعل بينها وبينه، من أجل أن تتماسك العناصر فيما بينها تماسكاً نصيّاً شديد القوّة والالتحام والتفاعل، كي يفضي إلى تركيبة روائية تسهم عميقاً في إنجاح عملية الصنعة الروائية التي تعدّ أول مقوّم فنيّ وتشكيليّ وجماليّ من مقومات بلوغ صيرورة الرواية في أعلى مستوياتها.
مفهوم الرؤيا في العمل الروائيّ هو مفهوم فضائيّ لا بدّ للروائيّ من الانتباه إلى معطياته كي ترتفع عناصر التشكيل درجة أعلى في سلّم الرؤية السرديّة، في مقابل مفهوم المرجع وهو يأخذ بأسباب إقامة العناصر السرديّة للعمل الروائيّ على قاعدة متينة تبدو وكأنّها واقعيّة قابلة للتصديق، مما يستولد في هذا السياق مفهوم المتخيّل السرديّ باعتماده على المفهومين السابقين (الرؤيويّ والمرجعيّ)، وهو ما يحتاج إلى مقاربة تأويلية تأخذ بنظر الرصد والمعاينة طبيعة هذه العلاقة بين المفهومين، فضلاً على قوّة الشخصيّة النقديّة بمستوييها النظريّ والإجرائيّ.
لعلّ المشكلة الثقافيّة والحضاريّة في هذا المضمار هي في تحليل نوعيّة المدينة العربيّة وقدرتها على تمثّل البعد الحضريّ المدنيّ في مفهوم المدينة، ومقاربة هويّة المدينة العربية ضمن إشكاليّة العناصر الحضريّة والعناصر الريفيّة التي تتشكّل على أساسها طبيعة هذه الهويّة، لاسيّما ما تفرزه هذه الإشكاليّة من ثنائيّة لها مساس قويّ بالتحدّي الثقافيّ في معادلة الأكثريّة والأقليّة من حيث النظر إلى المدينة بوصفها أكثرية والريف بوصفه أقلية، وما يمكن أن ينعكس من وحي هذه الثنائيّة على حساسيّة المتن الروائيّ القائم على عنصر التشكيل المكانيّ بالدرجة
الأساس.
إشكالية الأكثرية والأقلية هي إشكالية سلطة وهيمنة أكثر منها إشكالية كثرة وقلّة بالمعنى الحسابيّ الرقميّ، فحين تتشكّل السلطة وتهيمن تصبح هي الأكثرية حتى وإن كانت في الحساب العدديّ أقلّ قياساً بالفئة الأخرى المحكومة الأكثر عدداً، بمعنى أنّ الأكثرية ترتبط بالسلطة وأدواتها وقدرتها على التأثير والفعل وفرض النموذج، حيث تتحوّل بفعل ذلك إلى منتج رئيس ومركزيّ للقوانين التي تُسخّر عادة لخدمتها على حساب الآخر، فيصبح الفرد الواحد المنتمي للسلطة تحت حراسة هذه القوانين وحمايتها معادلاً لبضعة آلاف من جمهور الآخر، لأنّ كلمته فوق كلمتهم، ويده فوق أيديهم، ورأيه هو الصحيح والنافذ مهما كانت طبيعة هذه الكلمة وكيفيتها ومحدودية خطابها، وبصرف النظر عن آراء الآخرين مهما بلغت من علمية وموضوعية وصحّة وقوّة، فالعلمية والموضوعية والصحّة والقوّة هي دائماً من حصة فرد الأكثرية على الرغم من كلّ شيء.
تتميّز الذهنيّة الريفيّة بالثبات والأصالة في حين تتشكّل الذهنيّة الحضريّة على أساس التغيّر والانتقال، وعلى صعيد الانتماء لمرجعيّة ذات طبيعة اجتماعيّة يشعر الإنسان العربيّ على نحو خاص لحضورها في مشهده الاسميّ فإنّ الحضري ينتمي للمهنة بينما ينتمي الريفيّ
للعشيرة. وثمّة علاقة قد تبدو في كثير من الأحيان إشكاليّة بين الطرفين، إذ عندما تُحاصَرُ المدينةُ تلجأ إلى الريف وتستنجد به، في الوقت الذي ينظر فيه الحضريّ نظرة دونية إلى الريفيّ ويسعى إلى استبعاده وطرده من المدينة بحجّة أنّه يسهم في ترييف المدينة، وما يصاحب ذلك عادةً من مظاهر السخرية من شخصيّة الريفيّ التي قد تتحوّل إلى أمثلة تُضرب وتُقاس في معادلة تكشف عن خلل مزدوج بين طرفيها. فالريفيّ يتطلّع إلى المدينة ويشعر إزاءها بالعقدة الحضرية ويدافع عن علاقته بالريف بإعلان الأصالة والانتماء إلى العشيرة، وبعكسه يدافع الحضريّ عن قيم المدينة، وهو ما ينبغي استغلاله في بناء الطبقات السوسيوثقافيّة داخل العمل السرديّ الروائيّ الذي يتحرّك في إطار هذه المنظومة الرؤيويّة.
وذلك لجعل المدينة بوصفها مكاناً سرديّاً محمّلة بطاقة ذات حساسيّة نوعيّة خاصّة بوسعها التدخّل الحرّ في الحكي والتوجيه وابتكار الحلول، في سياق ربط مثاليّ بين مرجعيّات الواقع وتمثّلات المتخيّل تتعانق فيه انبثاقات الفلسفة مع تجلّيات الحراك
السرديّ.