قاسم موزان
تصوير: احمد جبارة
تتواصل مشاهد الإهمال للمباني والبيوت التراثيّة في بغداد، والتي تعد جزءا من هوية المدينة العريقة. هذه المباني، التي تم تصميمها على طراز معماري راق، تركت عرضة للتغيرات الجويَّة ليتحول بعضها إلى خرائب مهدمة تلامس الأرض، أو تستغل مكبَّات للنفايات وملاذات للحيوانات الضالة. أما البعض الآخر، فقد تحولت ملامحه إلى مشاهد تثير الأسى بعد أن فقدت جزءا كبيرًا من جمالها.
ورغم تزايد الوعي بشأن أهمية الحفاظ على التراث، إلّا أنَّ الكثير من المراقبين يوجهون نداءات عاجلة للحفاظ على هذا الإرث العمراني، مشيرين إلى أنَّ الحفاظ على هذه المباني يجب أن يكون من أولويات الدولة، خاصة في ظل التحولات البنيوية التي تشهدها العاصمة، والتي تركز على تطوير الخدمات والمشاريع.
تعدد الجهات وغموض الأدوار
في هذا السياق، أوضح الباحث في التراث العراقي، عادل العرداوي، أنَّ بعض المباني التراثيَّة في بغداد تعود إلى الدولة، وهي موزعة بين عدة جهات حكوميَّة، مثل وزارة المالية، محافظة بغداد، هيئة الآثار والتراث والسياحة، الأوقاف، وبلدية بغداد. هذا التعدد في الجهات المسؤولة يسبب تشتتًا في اتخاذ القرارات، مما يعرقل عملية الصيانة والعناية بهذه المباني. لذا، اقترح العرداوي ضرورة وجود جهة حكومية واحدة مختصة تُعنى بشؤون البيوت التراثيَّة، وهو ما يسهّل عمليات الترميم والتشخيص المطلوبة لهذه المعالم المعماريَّة التي تمثل الهوية الوطنيَّة للعراق.
تشريعات لحماية التراث
من جانب آخر، دعا الكاتب محمد جبر حسن إلى ضرورة سنِّ تشريعات وسياسات لحماية المباني التراثيّة في بغداد. وأشار إلى أنَّ هذه التشريعات يجب أن تشمل قوانين تحظر هدم أو تغيير الطابع المعماري لهذه المباني، فضلا عن فرض غرامات على المخالفين. كما شدد على أهمية نشر الثقافة التراثيَّة من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وتنظيم حملات تطوعيّة للترميم بمشاركة خبراء، والتعاون مع منظمات عالميّة لحماية التراث. وقال إنَّ هذه الجهود ستساعد في إنشاء أرشيف مرجعي يُمكن الاستفادة منه مستقبلًا.
وأكد حسن ضرورة تخصيص ميزانيات مالية لصيانة البيوت التراثيّة، كما يجب توفير قروض لأصحاب هذه البيوت للحفاظ عليها في حالة جيدة. وأشار أيضًا إلى أهمية دمج هذه المباني التراثيَّة ضمن برامج السياحة الوطنيَّة لجذب السائحين، رغم التحديات الكبيرة التي تواجه هذا القطاع، مثل نقص التمويل والضغوط العمرانيَّة الحديثة.
جزءٌ من هويَّة العراق
في حين وصف المهندس الاستشاري جميل حسين، البيوت والمباني التراثيَّة بأنّها جزءٌ لا يتجزأ من الهوية الوطنيّة العراقيّة، ويجب الحفاظ عليها كتحف معماريّة تعكس تاريخًا طويلًا من الفنون والعمارة. وأعرب عن أسفه لما آلت إليه بعض هذه البيوت، التي تحولت إلى مخازن للأدوات القديمة أو لأغراض أخرى بعيدة عن تقدير قيمتها التاريخيّة. وقال حسين: "لقد تم ترميم العديد من البيوت التراثيّة في منطقة الصالحيّة، مثل منزل رئيس الوزراء الأسبق توفيق السويدي، مما يعطي الأمل بإمكانية إعادة الاعتبار لبقية المباني التاريخيّة في بغداد".
دعواتٌ لحماية التراث من الاندثار
من جانبه، استذكر الكاتب نوزاد حسن مقولة تشير إلى أن "العراق غنيٌّ بتراثه"، وأكد أن العراق يمتلك ألبومًا معماريًا لا ينافسه فيه أحد. فبغداد، إلى جانب باقي مدن العراق، تحتوي على العديد من الآثار والبيوت التراثية التي تحكي تاريخًا عريقًا، ولكنها للأسف تفتقر إلى الاهتمام والصيانة اللازمة. وأضاف حسن أن زيارة المثقف الفرنسي أندريه مالرو إلى العراق كشفت له صدمة كبيرة عندما شاهد أحد البيوت التي كانت تُبنى بقطع صغيرة من الطابوق مأخوذة من مواقع أثرية، مشيرًا إلى أن التراث العمراني يمكن أن يعلمنا كيف ندمج الحداثة مع الأصالة في وقت واحد.
ذاكرة المدينة
وتحدث المؤرخ صباح محسن كاظم عن أهمية الحفاظ على المعالم التراثيَّة في بغداد، مشيرًا إلى أن بعض هذه البيوت قد تُدرج في لائحة التراث العالمي لليونسكو إذا تمَّ الحفاظ عليها. وأضاف كاظم أن بغداد تحتوي على أكثر من 2400 بيت تراثي مسجل في أمانة بغداد، وهو ما يعكس غنى المدينة من حيث التراث المعماري، مؤكداً ضرورة الحفاظ عليها من محاولات الحرق أو الهدم المتعمّد.
وأشار كاظم إلى أنَّ عمليات الصيانة في بعض البيوت التراثيَّة المجاورة لشارع الثقافة، مثل القشلة، تمثل أنموذجًا إيجابيًا يمكن الاقتداء به في الحفاظ على باقي المعالم التاريخيَّة في العاصمة.
الإهمال يُهدّد التراث
من جانبه، عبر المسن غازي أحمد عن حزنه الشديد من الوضع المزري لبعض البيوت التراثيَّة وسط بغداد، إذ تحول بعضها إلى خرائب تأوي الكلاب السائبة أو مكبّات للنفايات. وأضاف: "هذه البيوت ليست مجرد مبانٍ، بل هي جزءٌ من تاريخنا وهويتنا. على الجهات المعنية أن تتحمّل مسؤوليتها للحفاظ على هذا الإرث الوطني قبل أن يفقد العراق هذه الكنوز الثمينة".