أمجد نجم الزيدي
مع تسارع وتيرة التطور في تقنيات الذكاء الاصطناعي واستخداماتها، وخاصة في معالجة النصوص، أصبح التمييز بين النصوص الحقيقية الأصيلة وتلك التي تنتجها تلك البرامج، مسألة غاية بالتعقيد، وربما يزداد هذا التعقيد عندما يتدخل الكاتب بإعادة صياغة ما ينتجه الذكاء الاصطناعي، خاصة إذا امتلك قدرة ومهارات تمكنه من تقليل الفجوة بين الكتابة البشرية والكتابة الاصطناعية،
وقد برزت أمامي هذه الإشكالية، مؤخراً، بشكل واضح عند ملاحظتي لبعض الاختلافات الجوهرية في أسلوب بعض الكتابات، مقارنة بكتابات سابقة لمؤلفيها، وذلك من حيث الصياغة اللغوية وأسلوب الكتابة، والمعالجة لما مطروح، إلى جانب الكتابة في مواضيع جديدة غير مألوفة لديهم سابقاً، مثل هذه التباينات والاختلافات تثير الشك والتساؤلات حول هذا التغير المفاجئ، وعن مدى إمكانية استعانتهم بالذكاء الاصطناعي في انتاج هذه الكتابات، والذي يجعلني أكرر سؤالاً، قد طرحته سابقاً، حول مستقبل الكتابة الإبداعية ومفهوم الأصالة في الأدب في ظل هذا التطور المتسارع.
فهل يستطيع الكاتب الحقيقي أن ينافس الذكاء الاصطناعي، الذي يمتلك امكانيات هائلة في انتاج النصوص بسرعة وبدقة عالية؟ إذ يبدو لي أنَّ هناك توجهاً عالمياً متزايداً لتشجيع الاعتماد عليه في جميع مجالات الحياة وليس في الكتابة فقط، بل أنَّ هناك دعوات صريحة تدعو لاستبدال الجهد البشري بنظيره الاصطناعي، وقد صادفت مؤخراً إعلاناً ترويجياً يحمل رسالة واضحة مفادها أنَّ الامتناع عن استخدام الذكاء الاصطناعي يُعد خطأً؛ لأنّ الآخرين سيسبقونك إلى استغلال هذه الأدوات الجديدة وسيحجزون لأنفسهم مكانةً قد لا تستطيع منافستهم فيها، مما يوحي إلى أنَّ اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي لم يعد خياراً، بل ضرورة لضمان المحافظة على مكانتنا، وربما يقود ذلك إلى زمن قادم يصبح فيه المتمسك بالتقاليد الكتابية الحقيقية متأخراً ومتخلفاً عن مواكبة التطور المتسارع، أو ربما ستؤدي إلى موت الكتابة والتأليف بصورة عامة، واستبدالها بما ينتجه الذكاء الاصطناعي، ولكن هذه البرامج تحتاج إلى ما يُغذيها من كتابات ومصادر ومراجع كتابية، لذلك فهي عملية معقدة واشكالية، وما زالت في بداياتها، والتكهن بما ستؤول اليه مستقبلاً، يكون في حكم الافتراض والتخيل، والذي قد يكون جامحاً في بعض الأحيان.
لذلك أعتقد أن علينا أنْ نطرح هذا السؤال وبصورة موسعة، وهو كيف يمكن للكتابة البشرية الأصيلة أن تصمد أمام هذا الطوفان الاصطناعي، وكيف نحافظ على الفروق الجوهرية بين إبداع الكاتب البشري وما تُنتجه الآلات، خاصةً في زمن يشهد ترويجاً متزايداً للذكاء الاصطناعي كبديل يمتلك قابليات ومهارات لا يمتلكها العقل البشري؟
أعتقد أنَّ هذا السؤال هو سؤال أخلاقي بالدرجة الأساس، لأنه يشير ضمناً إلى أنَّ هذه المسألة، وما يتعلق منها بالكتابة بعامة والكتابة الإبداعية بخاصة، تنذر بتغير قيمي سيصيب الثقافة العالمية والثقافة العربية على وجه الخصوص، فالإجابة عليه تتعدى الأبعاد التقنية لتصل إلى عمق القضايا الأخلاقية التي تفرض نفسها بقوة، فالتطور السريع في أدوات الكتابة الاصطناعية ومعالجة النصوص، تكشف عن إشكالية كبيرة تتعلق بالقيم الثقافية والأخلاقية التي تحكم العملية الإبداعية، فهذا التحول إلى هيمنة الذكاء الاصطناعي قد ينذر بإحداث انقلاب في القيم الثقافية التقليدية، إذ أنَّ موضوع أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (Ethics of artificial intelligence) مطروح بشكل أخر، ومن وجهة نظر غربية وما بعد حداثية تحديداً، ترتبط بقضايا الخصوصية، والتحيز، والشفافية، والتوظيف العادل، ومراعاة المسؤولية الأخلاقية للمطورين والشركات، لضمان عدم إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي في تطبيقات قد تضر بالمجتمع أو البيئة، بعيدا ربما عن صلب تلك المسألة الأخلاقية التي تلامس أكثر من غيرها –حسب وجهة نظري- الثقافة العربية ومرجعياتها.
إن توظيف الذكاء الاصطناعي في الكتابات النقدية والفكرية والإبداعية قد يُحدث تراجعاً في دور الكاتب كفاعل ثقافي يتفاعل ذاتيا مع محيطه، وتؤدي إلى تَبَدّل قيمة النص المكتوب من كونه تعبيراً إنسانياً أصيلاً إلى منتَج تجاري يسهل الوصول إليه وإعادة إنتاجه، حيث هنا يتجلى البعد الأخلاقي لهذه المسألة، ويُثار التساؤل حول مدى مصداقية النصوص التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وإذا ما كانت تمتلك القدرة على تمثيل التفاعل الإنساني المعقد، الذي دائما ما كان السمة المميزة للأدب.
يُستخدم الذكاء الاصطناعي ربما كأداة تعزز الإبداع البشري، لا كبديل عنه، فقد يكون مفيداً في بعض الجوانب التقنية، مثل تنظيم المعلومات أو تطوير أفكار جديدة، لكنه لا يجب أن يكون بديلاً عن الكاتب الذي يمثل المجتمع وقيمه وتطلعاته، وحتى، ولو سلمنا افتراضاً، بأن الكاتب مجبر على استخدام تلك التقنية، فيجب عليه "أخلاقيا" أن يعلن أنَّ هذا المنتج من صنع الذكاء الاصطناعي، ولا ينسبه لنفسه، وهنا تأخذ هذه الاشكالية مسارين، يرتبط الأول بتأثير استخدام الذكاء الاصطناعي على مفهوم الأصالة، وبكونه بديلاً عن النتاج البشري، والثاني الذي يرتبط بمسألة أخلاقية حساسة، وهي أن يوظف لمصالح شخصية، وينتج لنا كتاباً مزيفين.
إنَّ مواجهة هذه التحديات تتطلب رؤية متوازنة، تضمن المحافظة على عملية الكتابة، بوصفها نتاجاً بشريا يحمل القيم الإنسانية، وليس من الضير الاستفادة من الإمكانيات الهائلة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، لكن يتوجب على الكاتب أن يظل وفياً لصوته الداخلي وتجربته الإنسانيّة، ويقتصر دوره بأن يكون داعماً ومساعداً للكاتب، دون أن يلغي الدور الجوهري للإبداع الفردي، ليبقى الأدب مجالاً للتعبير الإنساني، ومرآةً تعكس تنوع التجارب البشرية وعمقها.