إيتل عدنان: أفضّل الموجةَ على البحر
يقظان التقي
صدر حديثاً في بيروت كتاب في الحبّ واللغة للكاتبة إتيل عدنان، تعريب وتقديم فواز طرابلسي، عن منشورات “رياض الريّس للكتب والنشر”.
في هذه المجموعة من النصوص تحكي إيتل قصة الأب وأيام الطفولة في بيروت، وتتأمل في الكتابة بلغة أجنبية، وتتحدث عن القصور أمام كلفة الحب. وفي الشعر، تحضر بيروت وبعلبك واثنان من شعراء إيتل المفضلين، فلاديمير ماياكوفسكي وبابلو نيرودا، وعن الليل والألم والموت. ويختتم الإصدار بمقابلة أجراها فوّاز طرابلسي مع إيتل عدنان قبل الوفاة بأسبوعين وقد أرادتها بمثابة وصيتها عن الفلسفة والفن والأدب والحياة والموت. ليست بعيدة عن نيتشه والحب الصوفي.
كنت قابلتها في “السيتي كافييه” مع صديقتها الفنانة سيمون فتّال، وحاورتها مرات في التسعينات فعرفتها عن كثب، امرأة ودودة، حاسمة، قوية شفافة. تقاسمنا معاً منقوشة السعتر والجبنة في مهرجانات بيت الدين (مقرها الصيفي)، حيث كانت هناك عروض فنية عالمية ومنها عرض كوريغرافي ما بعد حداثي كتبت له السيناريو، يستحق أن يكون محور مادة ماستر دراسية لعمقه وجمالياته واتجاهاته الحديثة. هذه المرأة التي تفضل “الموج على البحر”، كان سعيها المتواصل نسج علاقات بين الفلسفة والفن والشعر، قدر ما سعت لنسج العلاقات بين الناس، ولسان حالها أنَّ “الحياة نسيج”. وأي نسيج ثقافي وإنساني جميل ولطيف.
إنها شاعرة ترسم، ورسامة تنظم الشعر، ومن هذا الامتزاج، قدمت قصائد، مرسومة، ورسوماً مكتوبة بمراهقة لطيفة وتوجهات فلسفية. تذكرنا ببيكاسو، لكنَّ شِعرها أهم من شِعر هذا الفنان الكبير الذي تأثر بالدادائية والسوريالية ومزج الرسم بالقصيدة. فإيتل عدنان شاعرة متوترة، تخرج جملها من جسمها، ومن أعصابها، متواترة ولغاتها المتداخلة، بمعنى آخر كانت في هذه الناحية رومنطيقية، وحالمة، تطلع لوحاتها وكتاباتها كالبركان. بل إن علاقتها بالرومنطيقية تظهر في إحساسها بالطبيعة، القمر والنجوم والغيوم والبحر والقرية، والمدينة. كانت تتحدث عن بيروت على مداد النظر من الميناء البحري إلى أعلى قمة صنين، تتحدث عن الجمال والطبيعة والبيئة التي اندثرت في جمهورية الإسمنت. ولعل قصائد الحب الكثيرة الذاتية، تبدو فيها رثائية أحياناً مثل “البلاد تحت الدموع” و”نشيد الموتى” و”نشيد فلسطين وتل الزعتر”، وإيتل برهان حيّ على أن التزام قضايا الحرية والعدالة والمساواة يغني الأدب. بل هو التزام قابل لأن يشكل تحولات نوعية في أشكال التعبير والتفكّر الجمالية، فهي ابنة الجيل الذي هزته هزيمة حزيران 1967 وانتشى بانتصارات الجزائر وفيتنام، ووضع المخيّلة في السلطة مع طلاب وشباب العالم في ربيع 1968 (فواز طرابلسي). ومن هنا تنوعها، وتركيزها على المسائل التي ترتبط بالثورات والانقلابات وطغيان الاستبداد، فكتبت عن فلسطين والقضية الجزائرية، وعن وطنها لبنان الممزق، بمعنى آخر اختارت الكتابة الملتزمة بكل عنفها وشفافيتها وقوتها، خصوصا قضية الحرية، كأنها طرقت بالتزامها، مجمل مسائل عصرها.
تبدأ قصتها مع اللغات في البيت، وبالمعلومات عن بيئتها العائلية وكفاحها حول الموضوع. أمها يونانية من أزمير، والدها دمشقي يعمل في الكلية الحربية في إسطنبول في أواخر القرن التاسع عشر، تزوج من ثقافة مغايرة لثقافته تتداخل الثقافة مع الكنيسة والدين أيام كانت الإمبراطورية العثمانية سلطنة واللغة العربية ممنوعة. درست الفرنسية كنوع من التطبيع النفساني، قبل أن تنتقل إلى بيروت الكوزموبولينكية في الحرب العالمية الثانية وشاهدت بيروت مدينة عالمية تضم السكان اليونانيين والإيطاليين والأكراد والأرمن إلى سكانها الأصليين من جنسيات مختلفة تتكون منهم جيوش الحلفاء وبدأت كتابة الشعر.
كان ثمة شعراء كبار (جورج شحادة)، وهي تكتب بالإنكليزية في العشرين من العمر. ثمّ سافرت إلى باريس ونيويورك واندمجت في الحياة الجامعية الأميركية والوقوع في غرام اللغة الأميركية في الشعر والرسم لتنتهي عند الدفاتر اليابانية. وتبقى العربية جنّتها المحرمة. تروي ٳيتل قصة أبيها (مواليد دمشق 1880)، ومزاج الموت والقتال، زميل أتاتورك وفي قيادة الأركان العثمانية التي يرأسها أنور باشا. وترسم في قصتها بيئة سياسية وقفت على مؤشراتها على نسق سياسي ومسؤولية فرنسا وبريطانيا عن مآسي المنطقة. في فصل ثان تتحدث عن نيتشه والحب الصوفي، وكم أنَّ الحب مزعج: “أن تكون عاشقاً بتلك الطريقة الصعبة، أنت مرتبك، تتقاذفك الرياح وعلى شفير الاختلال العقلي.. من يستطيع أن يتحمل هذا الانقلاب لفترة طويلة”. شرحت عدنان مجمل عناوينها وتعريفاتها الوجودية كأنها مصطلحات مفتاحية وكلمات لمعطيات حيوية: معنى أن تعيش ليلا، موت، لتعيد نشر قصائدها عن بيروت 1982، بعلبك (“نحن لنا كل الأعمدة المنتصبة، أينما كانت لأننا الوحيدون الذين نعتني بها”)، بابلو نيرودا وشجرة موز، وقصيدة مايا كوفسكي .
في شِعرها نبرتان غير منفصلتين، هما النصوص السياسية الملتزمة المعبأة بالقضايا الساخنة، في قصائد شعبية، نضالية، ثم قصائد الحب، وهي شفافة، صافية، صادقة، رقيقة، إلى الحبيب، وتشمل ما قدّمته إلى أصدقائها الشعراء منهم بيار باولو بازوليني وتوماس هاردي وإيف بونفوا، وهنري ميشو وإيف بونفوا وبيكاسو وبيار ريفردي.
إيتل عدنان اطلعت على مجمل التراث الشعري والكلاسيكي وتمكنت من صنع لغتها الخاصة. استخدمت من السوريالية بلاغتها الخاصة، وتحديداً مخارجها المفاجئة في صورها، لعدم الوقوع في المباشرة، وخصوصا في قصائد الحب، وذلك من خلال جمعها بين متناقضات في صورها، كما فعل بول إيلوار، وأندره بريتون وفيردي وأراغون، وهذا اللقاء بدا أكثر ما بدا في قصائدها القصيرة، أو الطويلة ذات الجمل الخاطفة، والمضيئة. وكذلك لم تستطع إخفاء تأثرها بالرومنطيقية الكلاسيكية في مواضيع الطبيعة، لكنها تمكنت من عدم الذوبان في قواعدها ونظرياتها.
وكذلك قصائدها السياسية، التي توحي بانفتاحها على شعراء كبار ملتزمين كنيرودا (الذي نقرأ عنده الحب والطبيعة والأمكنة)، والشعراء الإسبان والعرب: ويمكن ملاحظة تراكمية وبَوحية في هذه القصائد النزقة، مما يؤثر في بقية النص وحتى تشرذمه ومباشرته. وتكرر هذا الأمر في نصوصها الفلسفية، وهي التي قدمت أطروحتها للتخرج الجامعي عن بعض الفلاسفة الإغريق.
الواقع أن هذه الاعترافات الأخيرة، تنتج شيئا من أهميتها وعالميتها في نصوص وأشعار اختارتها للنشر في “بدايات الفصلية” (2012 - 2022)، من أعمال ترجمت إلى نحو عشر لغات. لكنها لا تمثل كل ما نشرته، وهو غزير من قصائد نثرية، مهمة تضارع في أهميتها قصائدها الحرة. فقد كانت أكثر حرية وجرأة في هذه القصائد النثرية من شِعرها الحر. امرأة ودودة، حاسمة، قوية شفافة.
إذاً، هو الحوار الأخير مع ٳيتل عدنان، تذهب فيه إلى مطارح بعيدة باتجاه نيتشه، “ما أراد أن يقوله وما لم يقله، وقالته هي، وهو أن العودة الأبدية هي اكتشاف الألوهة في داخلنا”، وتفكر في اللون والزهر كأجمل شيء في الحياة يبقى، وهو تعبير عن إرادة القوة في المادة ورغبتها في أن توجد، أن تكون أبدية.
اعترافات موجعة تسوقها في حديثه، منها مما منع عنّا رؤيتها، ولقاء “زهرة الفاونيا”، ما عادت تسافر كثيرا على جسور المدن بين نيويورك، باريس وبيروت. تقول: “مررت بفترة من الآلام المبرحة، تألمت كثيرا . كان الألم مثل طعن سكاكين في ساقي. المسكنّات لا تفيد. قلبي أضعف من أن يتحملها.. إنه الجحيم، بلغت فيها مرحلة صار فيها الموت هو التحرر من الألم. ليس الموت مشكلة كبيرة عندما تتألم. كنت أريد للشعر أن يتحرر بين الشعري واليومي”.
كتاب مثير يثير جلبة بعيدة، يعيد وجها شعريا وفنيا مشاغبا وتخريبيا قريبا جدا من القلوب والنفوس والطفولة. صياغة التميز اللامع والبسيط والبديهي غير المركب لكونه لطيفاً، تلك الرغبة في أن تكون. كانت ٳيتل قصة كبيرة، أكثر من امرأة، وأكبر من مدينة. إن إعادة قراءة شِعرها المنظوم والنثري في الإصدار، تكشف تعمقها في أعمال المدارس الشعرية الأجنبية كالسوريالية والدادائية وقبلهما الرومنطيقية وصولا إلى موجة اللغة، كاتجاه مع فيليب سولرز ومجلته، إلا أنها جانبت الانخراط في نظريات جاهزة، وخصوصا ما يسمى “الفن للفن” (فاليري ولوتريامون ومالارميه)، أي رفضت مقولة شعراء البرج العاجي، والانزواء في فردية متقوقعة، أو الانعزالية، أو الوقوع في لغة الأنا المطلقة، أي أن شِعرها، إلى خصوصيته وإيقاعه، انفتح على العالم، والمجتمعات، والشعوب، وقضاياها.
وُلدت في بيروت عام 1925، من والد سوري- تركي (عثماني) وأُم يونانية. تربت أولا عند راهبات كاثوليكيات بالفرنسية في بيروت، وفي محيط عربي. ثم انتقلت إلى باريس ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1958 وتعلمت الإنكليزية وأجادتها من دون أن تهجر الفرنسية، وبعض قصائدها الأساسية صيغت بالفرنسية. وكتبت شعرا ونثرا في أميركا وجالت في العديد من البلدان والقارات، وجعلت هذه الكوسموبوليتية منها مغامرة في آرائها ومواقفها، وهذا التنوع الثقافي حالة شعرية، ونجد في كتاباتها كثيرا من التأثرات العربية والأوروبية والأميركية، لكنها تغلبت على هذه التأثرات، في شعرها ورسمها، امتصتها جميعا وصاغت لغتها الخاصة. بدأت في بيروت بالانفتاح على الشعر الفرنسي، بشعرائه مثل بودلير وفيرلين ورمبو ولوتريامون وفاليري، يضاف إلى ذلك الرومنطيقية الألمانية مع نوفاليس وهولدرلن وريلكه، وكذلك الشعر الروسي مع بوشكين، وقرأت التوراة والقرآن والشعراء العرب الكلاسيكيين والحداثيين، ليضاف إلى ذلك تَوقها إلى الشعراء الفلاسفة باعتبارها درست الفلسفة سنوات وكانت فيلسوفة صلبة ثم اكتشفت الشعر الأميركي مع أمثال ويتمان وديكنسون وثورو.
حسناً فعل فواز طرابلسي، أن حملها إلينا في إصدار يشير إلى أفق لإطلاق النار على الحرب، ودلالة الرمز في الوطن المفخخ، ثلث نصف الليل والهدوء يخيم، يخرق اتفاق النار وبالأصفر الشاعري والأسود الذي تختاره فاطمة بيضون غلافاً لإصدارها الحيوي.