الإنسان الشِّعْر

ثقافة 2024/11/13
...

  شاكر الغزي

يرى نزار قباني أنّ وصف الإنسان بأنّه ناطق أو ضاحك لا يخرجه عن مرحلته الترابيَّة؛ ولذا فهو يربط حقيقة الإنسان بالشعر ويعرِّفه بأنّه "كائن يكتب شعراً. وبتعبير آخر، كائن حريصٌ على أن يعبّر عن ذاته تعبيراً ممتازاً. أن يقدّم نفسه في إطار نبيل".
وتبعاً لذلك، فهو يُبشِّر بـ"الإنسان الشِّعْر"، ويعتبره الضدّ النوعي لـ "الإنسان الرَّقْم". ويجزم بأنّ الإنسان الرقم لن يستطيع أن يقتل الإنسان الشعر؛ لأنّ الشعر لا ينتهي إلا إذا انتهت الحياة نفسها.
ويقيس نزار حضارة الشعوب بقدرتها على التطلّع إلى جماليّة الأشياء ومحافظتها على الحياد الذهني، "الشعب المتحضِّر لا يتاجر بالجميل ولا يستغله" كما يقول.
وأنا، أرى ما يراه نزار قباني، فالاحتفاء بالشعر، هو احتفاءٌ بالقيم الجماليّة ودعوةٌ إلى التحضّر، وردٌّ لشعوب الأرض إلى حقيقتهم الإنسانيّة بعد أن عصفت بهم التقنية الآليّة وكادوا أن يتحوّلوا ــ أو ربّما بدأوا في التحوّل ــ إلى تطبيقاتٍ محضة.
الشعر، إذن، هو البعد "الإنساني ــ الفنّي" للحياة في قُبالة العلم، البعد "الآلي ــ التقني". العلم، كما يقول أدونيس، يُعطي للحياة بُعد الآلة، لأن التقنية، بتشابه تطبيقاتها، تؤدّي إلى التماثل والتشابه، بينما يؤكّد الشعر على التمايز والتغاير والاختلاف؛ مما يعطي للحياة بُعد الحركة والتفجّر.
يقسم أدونيس الحياة إلى نصفين: علم وفنّ. وإحياء الشعر هو إحياءٌ لما أهمله العلم ولم يأبه له، أو ربما يحاول إماتته. وهذا الانقسام بطبيعته هو أساس الصراع بين الضرورة والحرية، ذلك أن الشعر هو التطّلع الواعي إلى الكشف عن حقائق أسمى إنسانياً وأعمق من حقائق العلم.
العلم، دائماً، يحتفي بما حول الإنسان، فيخترع ويبتكر ويبني آلياً، أما الشعر فيحتفي بما يختلج داخل الإنسان بوصفه جنساً كائناً لا فرداً كائناً.
الاحتفاء بالشعر، إذن، هو احتفاءٌ بإنسانيّة الإنسان ووعيه وحضارته. وأنا كشاعرٍ لي حلم وأمنية! حلمٌ أتشاطره مع الشاعر الذي أحبّ، نزار قباني، حين حلم بـ "المدينة الشاعرة" كمدينة الفارابي الفاضلة، ليكتشف الإنسانُ نفسَه، ويعرف الله.
وأما الأمنية فسبق أن جعلتها مقترحاً على لسان (تاليا) بطلة روايتي المخطوطة، تقول تاليا:
هل تعرف ماذا اقترحتُ على مُوفَد اليونسكو؟، قالت وهي تضع فنجان قهوتها التركيَّة فوق الطاولة، فأشرت لها بوجهي مستفهماً، أكملتْ: أن يلغوا تأشيرة السفر عن الشعراء!.
تخيلْ أن يسرح الشعراء ويمرحون في بلاد الله العريضة كالغيمة المسافرة لا تسألها سماء عن ورقة عبور فتنثُّ رذاذها على وجوه المتعبين أينما تجمهروا، تخيّلْ.