عبد الكناني
في الأزمان البعيدة والغابرة واللاحقة سادت مقولة واعتقاد الواقع الأدبي العربي وحتى المجتمعات الأخرى بأنَّ من أدركته حرفة الأدب سوف يقتله الجوع ويعيش الفاقة طيلة عمره لأنَّ حرفة الأدب كاسدة وليس لها سوق أو قنوات تنعشها. ولكن الحقيقة التي لمسناها من قراءاتنا واطلاعاتنا وقربنا من الواقع العربي في الماضي وفي يومنا هذا تثبت العكس، إذ كان الشعراء يحظون بعطايات الملوك والأمراء والخلفاء وأصحاب الحظوة والنفوذ والوجاهة مقابل قصائد ينظمها الشاعر بحق أحدهم “مدحاً أو رثاء” وغير ذلك. وكذلك أصحاب الخطابات والأغراض الأخرى من الكتابة. واليوم وبعد التطور الكبير الذي حصل في وسائل الإعلام والثقافة فقد توفرت فرصٌ كثيرة انعشت الوضع الاقتصادي للشعراء والكتاب ومنهم من فاز بالحسنتين “المنصب الكبير والموهبة الكتابيَّة “ شعراً أم نثراً. فضلاً عن الألقاب الأخرى التي ترتبت عليها امتيازات ماليَّة ومعنويَّة، كما حصل في العراق في العهد الدكتاتوري السابق حين استُحدثتْ ألقابٌ عديدة للشعراء مثل “شاعر القادسية وشاعر أم المعارك” وغيرها من الألقاب التي خصصت لها فقرات خاصة تمتع بها من تغنى بالدكتاتور والنظام السابق. أما بعض كتاب الرواية والقصة والنقد والصحافة والإعلام فمنحوا المناصب المختلفة في الوزارات والمؤسسات العراقيَّة بعضهم كانوا “عرباً” من دول أخرى.
تشارلز ديكنز
وحاولنا الاقتراب من هذه المسألة وطرحنا السؤال على عدد من الأدباء والنقاد لمعرفة إنْ كانت هذه المقولة غير صحيحة أو ليست سلبية بل كانت مفتاح الرغد والحياة المترفة على الأقل في بلادنا وفي مختلف المراحل، إذ لم نسمع عن من كان يعتاش من نتاجه الإبداعي “اي مردودات ما يطبع من مؤلفات” سوى في بلدان العالم الأخرى وآخرهم مؤلفة سلسلة قصص “هاري بوتر” بل غالباً ما كان يعيش من مورد آخر تعزز وانتعش بالنتاج الإبداعي.
فيقول الروائي عبد الله صخي: “انتبه العرب منذ قرون إلى العلاقة بين الأدب والفقر، ورأوا أنَّ الأديب الذي يكرس حياته كلها، أي يتفرغ تماماً، للأدب هو أديبٌ خاسرٌ حتماً. ولذا قالوا: فلان أدركته حرفة الأدب تعبيراً عن سوء الأحوال المادية للكاتب. وقد نجد أمثلة على ذلك حتى في الآداب الأجنبية، فتشارلز ديكنز صاحب روايات “الآمال العظيمة” و”قصة مدينتين” و “اوليفر تويست” هجرته صديقته ماريا بيرنل قائلة “ديكنز شاب لطيف لكنه أديب، فهل يستطيع أنْ يتكفل بمعيشتي بقلمه؟”. لكن الغرب تمكن من حل هذه المشكلة بعد أنْ أصبحت دور النشر هي التي “توظف” الكاتب وتطبع له وتسوّق أعماله. أشير إلى أنَّ ثروة مؤلفة قصة الأطفال هاري بوتر “جي. كي. رولينغ” بلغت نحو مليار دولار. أما الكاتب العربي فتراه يدفع لصاحب دار النشر مبلغاً من المال كي يطبع له نتاجه، يا لخيبتنا”.
وذكر الكاتب حسن الفرطوسي: “نعم.. ما زال هناك من يهيم في عالم الأدب وينسى سواه من أمور الحياة، وهناك أيضاً من يتمكن من هندسة هذا الهيام، ليكون تفرغاً أدبياً فيما لو تمكن من تأمين مصدر معيشته”.
ويقول الشاعرعبد الرزاق الربيعي: “أظن أنَّ الزمن ألغى هذه المقولة، فلا أحد اليوم يعيش على الأدب، والكتابة، هناك شعراء يعملون أطباءً ومهندسين وفي مجالات أخرى، فيما يمارسون الكتابة كهواية، ويشذ عن هذه الذين أدركتهم هذه الحرفة ممن عملوا في مكائن ذوي النفوذ”.
أما الناقد الدكتور رشيد هارون فيقول: “الأدب شأن شخصي، واختيار شخصي ليس للآخر شأن به سوى ما يتصل بتلقيه وتذوقه تالياً، ولا شكّ بأن الإبداع والفاقة لا يلتقيان، أما أولئك الأدباء الذين كتبوا تحت وطأة العوز فهم حالات خارج القاعدة، وهم قلة يجاهدون الواقع والنفس جهاداً عظيماً، مع ذلك حتى هؤلاء لم يقولوا إلا نصف ما أرادوا قوله، ولم يصيبوا من الحقائق الفنية إلا نصف ما أرادوا بسبب الضغوط الخارجية التي تحيط بهم”.
الأديب العراقي
ويقيناً أن الأدب يسرق عمر الأديب ووقته، ولا يمكن التفكير بمردودات ماليَّة إلا في حالات نادرة تكون المؤلفات فيها مراجعَ للدارسين، أو تلك التي تخوض في الأديان القديمة والتي تطلبها دور نشر محددة، وسوى ذلك فإنَّ الأديب العراقي على نحو خاص يؤلف ويطبع بنفسه، ويوزع جهده مجاناً بين الزملاء، لذا فإنَّ المقولة إياها في مَن أدركته “حرفة الأدب” لم تزل قائمة، ولم ينفكّ الأدباء هنا يمضون الى ربهم تاركين مؤلفاتهم وحسراتهم على الرفوف، الأدب لا قاعدة تحويه ولا قانون يحدّه بحدود، وكذا الأديب لا قانون في العراق يحميه ويحمي إصداراته ويوفّر له الجوّ والظرف، والحياة التي يستحقها التي طالما حلم بها وعمل على تشييدها له للآخرين.