محمد شريف أبو ميسم
في زمن باتت فيه المعرفة بكل أشكالها حكرا على المؤسسات والشركات التي تحكم العالم، وصولا إلى مخرجات مؤسسات العولمة الثقافية، التي تسعى منذ انتهاء الحرب الباردة إلى موت العقل النقدي وتدجين الرأي العام تبعا لأهوائها ومصالحها، تبرز إشكالية انتهاك خصوصية الثقافات المجتمعية، وعدم قدرة العقل الثقافي على انتاج ما يعطي حصانة للرأي العام أمام التأثيرات السمعية والبصرية التي تتفوق بها أدوات العولمة.
وعلى هذا الأساس تشتغل الجهات الصهيونية على الأجيال الجديدة بمشروعها التوسعي في الشرق الأوسط، عبر أدوات الحرب الناعمة بالتساوق مع أدوات القوة العسكرية والتفوق العلمي، اذ ما عادت عملية تقديم البراهين وفحص المعطيات وتحديد قوة الحجة بالحجة بقادرة على دحض الادعاء عبر تكراره وتقديمه بأشكال مختلفة وعلى مراحل مختلفة، مدعوما بقوة التأثير على منظومة الغرائز ورغبات الاستهلاك في ظل التفوق العلمي.
وفي هذا السياق يمكن النظر في محاولة من محاولات التسويق المكررة، التي تطرقها الدوائر الصهيونية بين الفينة والاخرى، وتقدمها للأجيال العربية التي أربكتها مخرجات أدوات العولمة الثقافية وهي تلتهم بشغف عسل المؤثرات السمعية والبصرية عبر مواقع التواصل، حيث بدأت بسموم الفتن والترويج للتشدد وصناعة الأعداء الوهميين من داخل وخارج التشكيلات المجتمعية، اعتماد على النعرات الطائفية والعرقية، التي تجيد توظيفها تلك الدوائر عبر مواقع التوصل الاجتماعي.
اذ نشرت حسابات رسمية تابعة لوزارة خارجية الكيان الصهيوني استغلالا لحالة ارباك العقل الجمعي في دول المنطقة، خرائط على منصة "اكس" تزعم أنها تاريخية، تضمنت في سياقات جس النبض خارطة للكيان المزعوم تضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن الأردن ولبنان وسوريا.
واللافت هنا ان ردود حكومات بعض الدول العربية ونخص منها الدول المطبعة أو التي هي في دور الانخراط بمشروع التطبيع، التي جاءت في سياقات الاستنكار تنسجم مع فكرة تدجين الرأي العام، اذ ان نقل الخبر بين مئات الأخبار التي تخاطب الاستهلاك والغرائز، والاعلان عنه بدعوى الرفض لهذه الممارسات بوصفها ممارسات تأجج التوترات والصراعات والعنف دون التلويح ولو بسحب السفراء، جعله مجرد موضوع بسيط في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، في سياق الإرباك الذي يعيشه الرأي العام العربي تحت مظلة الفتن والتحيز والتطرف، ما يؤسس قبل الانتهاء منه لمرحلة أخرى تنظر فيها الأجيال الجديدة لمعطى الصراع بوصفه (مادة مكررة لقضية تاريخية).
وفي زمن يعيش فيه الانسان العربي من أجل توفير لقمة العيش في محيط مكتظ بالإرباكات والتناقضات، وبيئات غارقة بالاستهلاك من جانب، والبحث عن ما يسد شأفة الفقر من جانب آخر، بجانب الهوس في ترميز التفاهة الذي تنتجه مواقع التواصل، يكون القبول بمعطيات الأمر الواقع عبر تكرار الملل الناجم عن عجز العقل النقدي وعدم قدرته على انتاج الوعي والتواصل مع الرأي العام، الأمر الذي يحفز العقل القائم على الشهوات الغير واعية للقبول بما يسمى السلام العادل والشامل بوصفه حلا نهائيا للخروج من أزمات هذا العقل، وعبر مراحل التطبيع الكلي مع دول المنطقة والانتقال إلى مرحلة الاحتواء الاقتصادي في نظم اقتصاد السوق الليبرالي التي تقودها رساميل الشركات التي تحكم العالم تحت مظلة العولمة، سيتم الاعلان رسميا عن موت العقل النقدي.