أوغوز آتاي وتوظيف عيوب اللغة

ثقافة 2025/01/29
...




ترجمة: جودت جالي 





لقد حذرنا كافكا من غدر اللغة، وتضليلها متعدد النكهات. حذر في رسالةٍ إلى شقيقته أوتلا سنةَ 1914 من أن تقبل أي شيء كتبه أو قاله:” أكتب بطريقة مختلفة عما أتحدث، وأتحدث بطريقة مختلفة عما أفكر، وأفكر بطريقة مختلفة عن الطريقة التي يتوجب أن أفكر بها، وهكذا يسير الأمر كله إلى أعمق أعماق الظلام”.

غير أن بعض الكُتّاب يحتفي بهذه السطور المعبرة عن الخطأ، وغالبا ما يكون أروع أعمالهم مستمدا من نواقص واسطتهم اللغوية، و(بانتظار الخوف) المجموعة التي لا تنشد ترابطا كاملا للغة ولا انحدارا إلى أعمق أعماق الإبهام في الوقت نفسه، هي مثال مدهشٌ وظريفُ المرارةِ والتهكم بعمق، مجموعة من ثماني قصص بقلم أحد أكثر الكتاب الأتراك تأثيرا وابتكارا في القرن العشرين وهو أوغوز آتاي.



هذه القصص اللاهية لغويا والسوريالية بعض الشيء، المكتوبة في السبعينيات من القرن الماضي، والمرتكزة على الشخصيات غير المنسجمة مع المجتمع والشاذة، غير أنها مسالمة تكافح للتواصل مع باقي المجتمع، نتبين أحوالها عبر نصيحة لكاتب عمود يستخف بها لصعوبة إرضائه في قصة، أو امرأة تبدو مشتتة الذهن تعثر على جثة زوجها السابق المتفسخة في قصة أخرى، فإن آتاي (1934 - 1977) ينبهنا إلى ما أسماه “الخوف من العيش”، القلق الشديد بخصوص العالم الخارجي.

إن اللغة وعيوبها هي انشغال رئيس. في القصة الطويلة التي تحمل عنوانها المجموعة تتفكك حياة شاب عصبي عندما يتسلم رسالة مشؤومة من طائفة دينية بكلمات لا يميزها ولا يفهمها. يساعده أستاذ لغات قديمة في فك شيفرة المذكرة قائلا: “أنت من الآن فصاعدا ممنوع مطلقا من ترك بيتك”. يمتثل الشاب حالا، وسرعان ما تصبح حياته سلسلة أعمال يومية مملة، وهوايات مخفقة، ونوبات تدمير ذاتي بدافع رهاب الاحتجاز. يلتقط بفتور كتب قواعد لاتينية وإنكليزية، ويقرأ عن الدين، ويدخل مقررا تعليميا في المراسلة، ويشرب حتى يفقد الوعي. إن قضاء اليوم في وسائل لهو لقتل الوقت هو توبيخ من المؤلف لمجتمع السبعينيات التركي، ويقول :” إن بلدي وشعبه يغيظانني، فلا أحد يقرأ، لا أحد يعرف حتى كيف يشعر كما ينبغي”.

ما أن انضمت تركيا إلى نظام ما بعد الحرب العالمي بقيادة أميركا عبر خطة مارشال وعضوية الناتو، حتى أصبحت اللغة الإنكليزية هي اللغة المشتركة  بشكل متزايد. تتصارع شخصيات عديدة في قصص آتاي مع افتقادها لإنكليزية قابلة للتداول، بينما تترسخ فيها العداوة للأجانب. غير أن النقد هنا موجه إلى الداخل أيضا معبرا عن حالات التفكك. يعترف الرجل (التحت أرضي) بأنه: “أبقيت نفسي لنفسي”، محتقرا نفسه لكونه مثل “رواية رخيصة”، تافها ومنافقا.

ولد آتاي في أنيبولو، مدينة ميناء صغيرة على ساحل البحر الأسود. غالبا ما بقي، وهو المعرض لمرض ذات الرئة، في البيت مع أمه المعلمة الشغوفة به. علمته العربية والفارسية المعقدة للقاموس العثماني التركي، الذي تم تسهيله خلال عمليات الإصلاح من أجل معجم صاف بأصول تركية. تهتم رواياته بهذا الصراع اللغوي، وبينما هو مطلع جيدا على شعراء الدواوين الكلاسيك، مثل فضولي وباقي، فإنه معجب أيضا بفيودور ديستويفسكي وكافكا، ويقرأ قراءات واسعة الاهتمامات بضمنها أعمال لخورخه لويس بورخس، وتشارلز ديكنز، وهنري جيمس، وكذلك الأنثربولوجي الأميركي أوسكار لويس.

لم تبدأ مهنة آتاي الأدبية إلا حين أصبح في منتصف ثلاثينياته، بعد طلاقه من زوجته الأولى. درس بهمة يحسد عليها الهندسة المدنية في جامعة إسطنبول التقنية من أجل دخل مالي مستقر، ودرَّس في الكلية وأنشأ شركة بناء سرعان ما أصابها الإفلاس . لقد خذله خلال حياته النجاح المادي ولم يفز بإعجاب النقاد. يلقي آتاي في قصته السيرية القصيرة (رسالة إلى أبي) باللوم على أبيه قوي الإرادة لعدم استقراره: “ لو أنك ربيتني تربية أفضل، فأرسلتني إلى الخارج أو ما شابه على سبيل المثال... لكنت أستطيع أن أقرر علاقاتي مع الأشياء، أو أن أجد لي موضعا في هذا الكون”.

نتعرف على عدم قدرة الشخصية على التعبير عن ألوانها في القصة الأولى الغنائية الغوغولية (رجل بمعطف أبيض). يرينا آتاي كم هو سهل، وخطر، أن تكون مقروءا من قبل الآخرين ومحكوما بإراداتهم. الشخصية الرئيسة رجل ملغز الصمت بمعطف نسائي، يختار بالتناوب أن يكون مرة مصروعا ومرة متسولا ومرة مجنونا ومرة منحرفا ومرة سائحا. يضعه صاحب متجر عارضا للأزياء . كلما استطاع أن يهرب من مستغليه يعاد الإمساك به من قبل حشد أخرق أو شخصية مهيمنة، ولا تكون لديه كلمات خاصة به ليعبر بها عن احتجاجه.

حتى لو سخر آتاي من جهود تركيا لجعل المجتمع غربي الثقافة والأحوال، فهو ليس بمحافظ رجعي، وقد احتفى بمثال المثقفين الأتراك الواثقين من خلفيتهم والمنفتحين على العالم أيضا. قال مرة: “نحن لسنا بلدا متأخرا، نحن فقط نشبه رجلا نبيلا فقير الحال”. يجري تبجيله اليوم على نطاق واسع لروايته (توتونامايانلار) 1972 البالغة 700 صفحة، الرائعة الأدبية التجريبية التي تتحدث عن مهندس شاب اسمه تورغوت، وسعيه لفهم ما الذي دفع صديقه سليم البرجوازي الصغير إلى الانتحار. إن ترجمة حرفية لعنوان الرواية الصعب يمكن أن يكون (أولئك الذين لا يستطيعون التمسك)، غير أن آتاي قبل وفاته إثر ورم في الدماغ، وافق على ترجمته بتعبير (المنفصلون). إن (توتونامايانلار) بابتعادها عن الواقعية الاجتماعية، توسع مديات الحساسية الجمالية للرواية التركية بشذوذها الشكلي، وباستخدامها تيار الوعي الجويسي وغياب النقاط والفواصل، وفيها على غرار قصة ناباكوف (نار شاحبة)، قصيدة ملحمية ساخرة مكونة من 600 سطر مع شرحها.

كلما ازداد شعور تورغوت بانفصاله عن حياته السابقة، يبدو صدى لطموحات آتاي نفسه :” أريد أن أكتب مقدمة جديدة لنفسي. أريد خلق لغة جديدة. لغة ستصفني لنفسي”. إن هدف آتاي لشخصياته والقراء هو معرفة الذات. إن أكثر قصص المجموعة رقة وإحالة إلى الذات هي ( قصاصو السكك الحديد - حلم) وفيها ثلاثة قصاصين أحدهم الراوي، يسكنون أكواخا متداعية قرب محطة سكك قديمة. عندما يأتي القطار يدورون بقصصهم مكتوبة على أوراق رديئة رخيصة على مسافرين “ فقراء وجهلة”. 

عندما يكون كل شيء قد قيل وفُعل، فإن الأدب يكون مجرد نتاج إضافي، كما يقول آتاي الذي عبر أورهان باموق عن إعجابه به في خطاب تسلم جائزة نوبل، وقال إنه أسهم في تطوير السرد التركي. في الواقع أن كامل عالم راوي قصة (قصاصو السكك الحديد - حلم)  متقلقل، فمواعيد القطار تتبدل، والقطار السريع المربح يتغير خطه، ورفيقاه يموتان أو يختفيان، ولكنه مع ذلك يتمسك بأمل العثور على قارئ، واضعا كل إيمانه في اللغة. نحن مدينون لها، كما يبدو أنه يقول، ولا نستطيع من دونها.

The new york times book review