فضاء المعرفة ومحنة السؤال

رضا المحمداوي
مع توالي العروض المسرحية التي يشهدها الموسم المسرحي العراقي في كُلّ عام وما يعقبها أو يتزامن مع عروضها التي تمتد لشهور من كتابات نقدية تتصدى لتلك العروض وتحاكمها فكرياً وجمالياً.. مع توالي تلك العروض الفنية ينشط النقد المسرحي ويُعلنُ عن وجوده ونوعه التخصصي بشكل جلّي يثير زوبعة ً من الأسئلة والاستفسارات المعرفية التي تصل في بعض الأحيان إلى التساؤل المُستَفِزعن ماهيّة النقد: ما هو النقد؟
ومَنْ هو الناقد؟
فضلاً عن السؤال الصعب: ما جدوى النقد نفسه المُلحق بالعرض المسرحي؟
وما علاقته بالجمهور المُستهَدف؟
وغالباً ما تكون الحصيلة النقدية النهائية أمّا الاصطفاف مع العرض المسرحي الكامل بما يحتويه من منظومة تضم النص المسرحي والتجسيدات البصرية بكُلّ مفردات السينوغرافيا، أو أن تذهب تلك الحصيلة النقدية بكليتها إلى المغايرة أو الاختلاف مع جاء به العرض المسرحي ويصل الأمر إلى حدّ المشاكسة.
وفضلاً عن عروض الموسم المسرحي السنوي وما تحفل به من كتابات نقدية فإنَّ المهرجانات المسرحية تدفع بالنقد إلى الواجهة لكي يكون أكثر حضوراً وتأثيراً بحيث يحتل جانباً كبيراً ويشغل أياماً معدودة مُخصّصة للجلسات النقدية التي تعقب العروض المسرحية حتى كأنَّ النقد أصبح قريناً للعرض المسرحي وهذا ما يكشفه جدول أيام المهرجان المسرحي، حيث ينقسم إلى قسمين رئيسين يتضمن العروض المسرحية والجلسات النقدية المُخصّصة لتلك العروض.
ومقالتي النقدية المتواضعة هذه إنما تأتي استجابةً أو تفاعلاً مع ظهور وبروز الظاهرة النقدية لدينا في العراق والمواكبة للحراك المسرحي الذي نشهده في الوقت الراهن، مع ما تنطوي عليه تلك الكتابات النقدية من تنظيرات وطروحات فنية تضم بين جنباتها هي الأخرى وجهات نظر مختلفة وآراء وقناعات متباينة، لكنها على العموم تُجمعُ على أهمية النقد ودور الناقد في الحياة المسرحية وما يثيرهُ من ثقافة فنية. ماهيّة النقد
تذهب العديد من المفاهيم والرؤى النقدية إلى أنَّ النقد عبارة عن قراءة للعرض المسرحي بشقّيه: النص الدرامي للمؤلف المسرحي والمعالجة البصرية للمخرج التي تجسُّدها الرؤية الإخراجية،بمعنى أنَّ النقد وفق هذا المفهوم إنما هو فعل قرائي بمحمول معرفي، وهذه القراءة، أمّا أنْ تكون قراءة سطحية تكتفي بملامسة السطح الخارجي دون الغوص في عمق النص ومنطوقه الإخراجي، أو أنْ تكون القراءة قراءة ًعميقة ومركبة تفضي إلى (تبصّر) وتفعيل للـ (بصيرة) بعد إدراك المنظومة البصرية، وبهذا المعنى فإنَّ الناقد يتحوَّل أو ينتقل من دور المتلقي العادي للعرض المسرحي إلى العقل الفاحص والمُتعمّق والكاشف لملامح وصفات الفعل الإبداعي المُتَجسّد على خشبة المسرح.
وينطوي فعل القراءة، هنا في هذا السياق على فك شفرات النص وتأويل مفرداته وموجوداته وفهم واستيعاب لشبكة الشخوص وعلاقاتها المتداخلة. وبمرور الناقد بهذا الأدوار والتنقلات أو التحوّلات من المتلقي العادي إلى المتلقي - القارئ،ثم إلى القارئ المُنتِج للنص النقدي المقابل لثنائية العرض المسرحي المنبثق من النص الدرامي آخذين بنظر الإعتبار أنَّ النص الدرامي المكتوب هو المُسوَّدة الأولى للعرض المسرحي، نكون قد دخلنا بواسطة النقد إلى الفضاء المعرفي، وبالتأكيد أنَّ فعل القراءة المُنتِجة ينطوي على إعادة كتابة للنص المُتجسّد والمتحرك على خشبة المسرح وفق المنظومة الإخراجيًّة. الفاعلية النقدية
وما أنْ يشرع الناقد بكتابة المتن النقدي بعد قراءته للعمل المسرحي بوصفه نصاً درامياً وعرضاً مسرحياً تكون الفاعلية النقدية قد بدأتْ لغرض الوصول إلى المتلقي- القارئ الجديد والذي يُفترض به أنْ يكون قد شاهد العرض المسرحي مسبقاً ونشأتْ بين الإثنين لغة تفاهم مشتركة، وتتحدد الغاية أو الهدف من هذه الكتابة النقدية في إضاءة الطريق أمام المتلقي والوصول إلى المعنى مباشرة وإصابة الهدف الفكري أو الاخلاقي أو الاجتماعي المخبوء تحت طبقات ومستويات العرض المسرحي.
وتبدأ هذه الفاعلية النقدية أوَّلاً عند الناقد بتعامله الحسي مع منظمة العرض المسرحي والذي يوصله إلى التفاعل ومن ثم التعاطف والتواصل، وصولاً إلى المرحلة التقيمية التي تقودُهُ إلى التقييم العام واطلاق الأحكام النقدية المعيارية إزاء مفاصل وجوانب العمل المسرحي، وترتبط الفاعلية النقدية بالمرجعية الفكرية والفنية للناقد نفسه، وغالباً ما تكون هذه المرجعية مستندةً إلى الثقافة الدرامية التخصصية والنظريات المسرحية وفهم وادراك منطلقات المدارس والاتجاهات الإخراجية العالمية سواء القديمة منها أو السائدة في الوقت الراهن.
وتتجلّى أبرز صور هذه الفاعلية النقدية بالرؤية النقدية التي ينظر الناقد من خلالها وبواسطتها إلى العرض المسرحي ومدى فهمه واستيعابه لمنطوق العمل المسرحي المنقود ومفرداته الفنية، وتكاد تنحصر وظيفة الرؤية النقدية في ما يريد الناقد أنْ يقول مقابل ما قالهُ العرض المسرحي، وهنا يتوجب أنْ تكون حزمة الأسئلة المعرفية والجمالية حاضرةً في متن النص النقدي للناقد.
وتبرز المهارة الفكرية- الفنية للناقد وهو يستخدم أدواته المنهجية ومنظومته المعرفية من خلال رؤياه النقدية ومحاولة إيصالها إلى المتلقي الجديد وعندئذ نكون إزاء الأسلوب الخاص للناقد وبصمته الشخصية التي تكشف بالضرورة عن أخلاقيته المهنية التي تتحكم باستخدامه لأدواته ومفرداته النقدية ومدى مصداقيته في محاكمة العمل الفني والاحتكام إلى الأُسس المنهجية.
فالبعض من النقاد في هذا المضمار يرتمي في أحضان الانطباعية اسلوباً ومنهجاً ويكتفي بالملامسة الخارجية لظاهر المشهدية المسرحية لينساق في الأخير إلى مقولات إنطباعية جاهزة قد تقودُهُ إلى الضبابية وعدم الوضوح حيناً، وإلى المغالطة في اطلاق الأحكام النقدية حيناً آخر.
فيما يبدو البعض الآخر من النقاد لاهثاً وهو يهرول وراء العرض ويقترب كثيراً من الانشائية عبر لغة مستغرقة في العرض المسرحي من دون أيّة مشاكسة أو اشتباك فني مغاير ومن دون أيّ اطار منهجي أو ملامسة أكاديمية في منظور كتابته النقدية، وهذه الذاتية القاصرة تدفع به ليكون ضمن ما يمكن تسميته بالنقد العشوائي.
وفي الوقت الذي يُعلنُ النقد الأكاديمي عن نفسه بأُسسه المنهجية ورصانته العلمية بواسطة أقلام وأسماء قليلة ما زالتْ فاعلة وناشطة في الصحافة الثقافية والفنية، فإنَّ البعض الآخر من النُقّاد الأكاديميين وبدلاً من الذهاب إلى المعنى المُراد والمقصود مباشرة تراهُ يدخل في فضاء كتابة مفتوحة على الكثير من المفاهيم والمصطلحات المتداخلة مع بعضها البعض مع طغيان واضح للغموض وعدم الفهم والتقعّر في اللغة العلمية المُستخدمة التي لا يفهمها القارئ العادي الذي يُصبحُ مع هذا النوع من النقد والنُقّاد وكأنه "رجل أعمى يبحث في غرفة مظلمة عن نقطة سوداء لا وجود لها" على حد وصف أحد
النُقّاد؟