حيرةُ المفاهيم وزحمةُ المصطلحات

ثقافة 2025/02/02
...

  محمد صابر عبيد


تولد الحيرة في شتّى أنواعها ونماذجها وتحوّلاتها العجيبة حين لا يستطيع الإنسان بإزاء وضع معيّن أن يفهم الأمور على حقيقتها، أو يقدّرها حقّ قدرها بما يناسب الحال والمقام؛ لأسباب عديدة وكثيرة لا حصر لها؛ تغزو العقل الإنسانيّ وتزدحم في خياله بحيث لا يمكنه التفريق بين الأشياء على نحو سليم ومناسب وحاسم، وفي إطار المعرفة والعلوم الإنسانيّة بشكل خاصّ تتفاقم هذه الإشكاليّة تفاقماً شديداً لا يسمح بكثيرٍ من التأمّل، إذ يجعل الأشياء تشتبك ببعضها وتحصل الحيرة وتتمدّد على مستوى تناول المفاهيم وتلقّيها وتداولها، ولا سيّما أنّ شبكة المفاهيم في هذه العلوم الإنسانيّة غالباً تخضع لسلسلة تطوّرات تتحوّل فيها من طبقة إلى أخرى، ولا بدَّ من متابعة هذه التغيّرات والتحوّلات لمن يريد المكوث في حقل المعرفة والتوافق الدائم مع معطياتها، وإلّا فإنّ السقوط في أسفل درجات الحيرة سيكون هو الناتج الطبيعيّ لعدم القدرة على متابعة هذه التحولات المفاهيميَّة على مختلف المستويات.

تقود الحيرة إلى الفراغ، ويقود الفراغ إلى المحو، ويقود المحو إلى اللا معرفة، ومن ثمّ يكون الشخص اللا معرفيّ هنا خارج دائرة المفاهيم؛ بما يجعله غريباً عليها وبعيداً عن فضائها، بمعنى أنّ الحيرة هذه هي الحدّ الفاصل بين الانتماء إلى عالم المفاهيم أو المكوث كليّاً خارجها، وهذا الخيار يعود بالدرجة الأساس إلى قوّة شخصيّة الإنسان ومقصده في الحياة؛ فحين يقرّر الانتماء إلى عالم المعرفة لا بدَّ له أن يتصالح مع حيرته ويعمل على توطينها وتفكيك سلطتها، حيث يتيح له ذلك القدرة على الهيمنة عليها؛ والاقتراب من فضاء المفاهيم لإدراك الحدود بين مفهوم وآخر، على النحو الذي يوصله إلى مرتبة يكون فيها قادراً على إزاحة مناسيب الحيرة شيئاً فشيئاً، والدخول الحرّ والحيويّ والأصيل والمُبهِج في جوّ المفاهيم داخل حاضنة المعرفة، ومن ثمّ اكتشاف خطوط التلقّي المناسبة والصحيحة للحصول على موطئ قدم في هذا العالم العميق الباهر، والانتماء إلى هذا الحقل بقوّة وجدارة وكفاءة متكاملة.

تتّصل المفاهيم اتّصالاً وثيقاً وجوهريّاً بفضاء المصطلح بوصفه الابن الشرعيّ لها، لأنّ المفهوم لا يتجلّى على نحو فعّال في ميادين المعرفة إلّا بوساطة المصطلح، بما يجعل فضاء المصطلح أهم فضاء معرفيّ يحرّك الأدوات المعرفيّة ويسوّق المفاهيم بوصفه مفتاحاً رئيساً يساعد طالب المعرفة على التوغّل في أعماقها بدليل صحيح، وحين نعاين أفق المصطلح في حقل الدراسات الإنسانيّة، ولا سيّما الثقافيّة والأدبيّة والنقديّة على نحو خاصّ؛ سنجد أنّ صفة "الزحمة" هي الصفة الأنسب التي تليق بالحال الذي انتهى إليها المصطلح فعلاً، بفعل عوامل كثيرة ومتنوّعة في مقدّمتها الترجمة بما تنطوي عليه من إشكالات، إذ إنّ الترجمة لها مدارس وفلسفات وأساليب شديدة الاختلاف لا يمكنها أن تتوافق على صعيد التوحيد والتفاهم، حيث يقوم مترجم عن اللغة الفرنسية بالترجمة استناداً إلى وعي ثقافيّ ورؤيويّ فرنسيّ، ويفعل المترجم الآخر عن اللغة الإنجليزيّة أو الألمانيّة أو الإسبانيّة أو غيرها الشيء نفسه بناءً على وعي مختلف ومغاير، وهذا يوقع المترجمات في سياقات لا تؤمّن نواظر عربيّة متقاربة في أحيان كثيرة، فعلى سبيل المثال ثمّة كتاب لـ "جان كوهن" عن لغة الشعر، ترجمه الدكتور المصري أحمد درويش بعنوان "بناء لغة الشعر" وترجم اسم المؤلّف "جان كوين"؛ في حين ترجمه الدكتوران المغربيان محمد الولي ومحمد العمري بعنوان "بنية اللغة الشعريّة" وقد ترجما اسم المؤلّف "جان كوهن"، في سياقين مختلفين ورؤيتين متغايرتين.

ولا شكّ في أنّ الاختلاف واضح من ترجمة اسم المؤلّف وعنونة الكتاب على صعيد لسانيّ ودلاليّ وشكليّ، فكلمة "بناء" تختلف كليّاً عن كلمة "بنية" في المعيار الاصطلاحيّ العربيّ، مثلما تختلف كلمة "لغة" المنكّرة عن كلمة "اللغة" المعرّفة في سياق الاختلاف القائم في اللغة العربيَّة بين التنكير والتعريف، والأمر نفسه ينطبق على الفرق الشاسع بين مفهوم "الشعر" ومفهوم "الشعريَّة"، وثمّة اختلافات كثيرة وواضحة في ترجمة متنَي الكتابين بما يخلّ بعملية تقديم الرؤية النقديّة وسبل تلقّيها.

إنَّ مثل هذا الأمر يجعل حركة الترجمة في هذا الإطار المعرفيّ أخطر حركة تؤثّر في نُظُم صوغ المصطلح في الثقافة الأدبيّة والنقديّة العربيّة، وهذا الموضوع ينطبق على كثيرٍ من الترجمات في النقد والشعر والقصة والرواية والفلسفة وغيرها، ليقع القارئ في حيرةٍ كبيرةٍ بإزاء ما يتلقّاه مترجَماً من لغات أخرى عديدة، وقد نجد في بعض الترجمات ما يمكن أن نعزوه إلى عدم فهم المترجم للفكرة على صعيد اللفظة أو الجملة أو التعبير؛ عندما يجد المتلقّي أنّ السياق الذي يقرأه ينطوي على خلل ينعكس سلباً على الصورة العامة للفكرة، وهذا يولّد عدم ثقة بالمادّة المترجَمة بسبب سوء صياغة المصطلح المترجَم.

تسهم الحيرة إذا ما اقترنت بالزحمة في سياق علاقة المفهوم بالمصطلح في إرباك الرؤية المعرفيّة وتشتيت أنساقها الفاعلة، لذا لا بدَّ على هذا الأساس من السيطرة على حيرة المفهوم وتحويلها إلى درجة من درجات الاستقرار، والحدّ من زحمة التراكم المصطلحيّ كي يتنفّس المصطلح الصحيح في جوّ صحيّ من الحراك المعرفيّ، ليكون التلاحم بين جناحي الرؤية النظريّة في أعلى مستوى؛ على نحو يستجيب لشبكة الفعاليّات التي ينهض بها الفاعل المعرفيّ في سبيله نحو إنتاج المعرفة أو تلقّيها على حدّ سواء.