تخادم الفلسفة والعلم

ثقافة 2025/02/02
...

  حازم رعد


مما لا شكَّ فيه أنَّ الفلسفة والعلم كلاهما معرفة، وإن تعددت وتباينت موضوعاتهما التي يتناولانها فإنّ كليهما يشتركان في محاولات الاجابة عن التساؤلات الوجودية الكبرى، كما هما يريدان إزالة غشاوة الجهل عن ذهن الإنسان ورفع الغموض الذي يخيم على الأشياء نتيجة عوامل عديدة أبرزها التخلّف وعدم التفكير والاعتياد وما إلى ذلك، ثم وكلاهما يجهدان غاية في بلوغ الحقيقة "والتمييز بين الخطأ والصواب" وإن اختلفا في المنهج، وهما طريقان يكشفان عن المجهول بمشارط متنوعة، لا يعني ذلك نفي الصراع بينهما، إذ هو موجود وأوضح من حاجتنا إلى توكيده. ولكن ذلك لا يعني أيضاً عدم وجود نقاط التقاء وانسجام بين المعرفتين الفلسفيّة والعلميّة، ولا بدَّ أن يتفهم الاتجاه العلمي أنه بذلك تجربة إنسانيّة تهدف بالتزامن مع بقية التجارب خدمة الإنسان والاضطلاع بمهمة تسخير الطبيعة له، ناهيك عن أن العلم نفسه لا يتحمل مسؤولية تلك النزعات "المحاولات" المتطرفة التي تزاول مهمة اختزال الحقيقة واحتكارها في الاتجاه العلمي "التجريبي" وتقديمه على أنّه مساوٍ للحقيقة المطلقة "ليقع أنصار هذا النزعة المتطرفة داخل الاتجاه العلمي بنفس الفخ الذي وقع فيه من قبلهم من اصحاب النزعات المشابهة" لا سيما والمطلعون يعلمون أنَّ العلم في حالة نمو وتجدد مستمرة، وأن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم كما يرى غاستون باشلار، ومن ثمَّ فإنّ التجربة العلميّة ليست متصلة، بل يقوم اللاحق فيها بشكل يتجاوز السابق منها ولا يعتني به. 

ولكن لا ضير من اعتماد التجربتين على بعضهما في أن يمد كلٌّ منهما الآخر بالعناصر الضروريّة، أو بما يعوزه أحدهما في سبيل تقدم البحث العلمي والمعرفة الكشفية الناشدة كشف الحقائق أو في سبيل حل المشكلات التي يعج بها واقعنا، وهي كثيرة تبدأ من المشكلات الأسرية إلى الاجتماعية فالدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها، أو تجيب عن الصعوبات المحتملة التي من المحتمل أن تعترض طريق أحدهما، وهذا هويتهد يقول "إنّ من شأن العلم والفلسفة أن يتبادلا النقد، وأن يمد كل منهما الآخر بالمواد الخصبة التي تسمح بالتقدم تجيء العلوم فتتخذ مبادئها من تلك الوقائع الملموسة التي يقدمها المذهب الفلسفي وليس تاريخ الفكر سوى القصة التي تروي لنا مدى نجاح هذا المشروع المشترك او فشله".  ولعل هذا التعاون مطلوب بينهما، آخذين في عين الاعتبار أن التفكير في العلوم هو أحدى مهمات الفلسفة وتخضع لتقييماتها لا أقل أن نتائج العلوم تبوب وتعمم بقوالب تصنعها الفلسفة وتقدمها كمفاهيم كلية تصلح أن تكون قواعد تفكير وطرق ممارسة وما الى ذلك، وهذا التعاون مرغوب ويسهل صعوبات الحياة ويسهم في رفد الإنسانية بما تحتاجه من فكر ونظر وتأمل وتجربة فيسهل عليها العيش في هذه الحياة. وتعضيداً للفكرة أعلاه يقول روبرت زيمر في كتابه "الغاز فلسفيّة"، مؤكداً وثاقة العلاقة بين الفلسفة والعلم "يقيم العلم مع الفلسفة علاقات وثيقة، بل أوثق مما يعتقد غالب الأحيان.. على مر العصور كان التأثير متبادلاً بين الفلسفة والعلم، والأمثلة على ذلك تتوالى منذ العصور القديمة وحتى أيامنا هذه. فالنظرية الذريَّة التي دافعت عنها الفلسفة في اليونان القديمة، وكما تمثلت بفلاسفة امثال ديموقريطس "نحو 460 – 371 ق. م" وليسبوس "القرن الخامس ق . م" وابيقور "نحو 341 – 271 ق. م"، كانت في الاصل نظرية محض فلسفية، وهي تعتبر في العصور الحديثة الملهمة للبحث العلمي، لا سيما في حقل العلوم الطبيعيَّة. كانت النظرية الذرية كما يؤكد بوبر "برنامج بحث ميتافيزيقي" ما زال العلم الى يومنا يأخذ به.  ومن جهة ثانية نشهد اليوم تأثيراً للبحث العلمي لعلم وظائف الاعصاب على سبيل المثال على النظريات الفلسفية، هل يمكن الفصل بين الجسم والروح كما فعل الفلاسفة الكلاسيكيون بسهولة كاملة انها مسألة اصبحت موضع نقاشات حادة، ويعني ذلك "وذاته هذا ما أرى فيه جانبا كبيرا من الصواب" أن غالبية النظريات العلمية الراهنة كانت لها جذور في الفكر الفلسفي عند القدماء أو هي كانت مطروحة فيما سبق ويعاد تشكليها في تاريخنا المعاصر بحلل جديدة نظراً لما تنضوي عليه من صحة وإمكانية العود من جديد. ونظراً لما تمتاز به من ثراء معرفي يجعلها عرضة للبحث والدرس الفلسفي والعلمي في زماننا الحاضر، ولكن الأمر يحتاج الى تأصيل مفاهيم تلك النظريات والصعود بها بحثاً وحفراً للوقوف على وجهة النظر هذه. واليك مثالاً في النظرية الذرية والصيرورة التغير المستمر في الأشياء التي فسرت سؤال الأصل للعالم ومسائل الرياضيات والكثير من مسائل علم الفلك والهندسة وغيرها من النظريات الأخرى التي اخذت الان بالتكرار والعودة، فالعلاقة بين العلم والفلسفة وطيدة وقوية. 

الفلسفة هي التي انتجت العلم وقادت العلم المعروف عندنا بحلته الحالية الى الظهور، فالعقل هو الذي اكتشف قارة التفكير العلمي والتفكير المنطقي المتسق وليس من الصحة الذهاب باتجاه القول بعدم جدواه أو قدرته على مواكبة التحولات الكبرى الحاصلة، بل يرجع اليه كل الفضل في مواجهتها والتصدي لها، وإيجاد حلول ومعالجات لها، وتحتفظ الفلسفة بذلك بلقبها "أم العلوم" وهي فعلاً كذلك رغم كل هذه الجلبة التي حصلت بين الفلسفة والعلم نتيجة هذا الصراع القائم.