د. نصير جابر
تنتمي الفنانة التشكيليَّة إيفيلين عشم الله إلى الذاكرة المصريّة الحيّة بطريقة بها من الشغف والواقعية والاحتدام الصاخب الكثير الكثير، وهو انتماء خاص وخالص ومختلف وحقيقي جدا، فهي تعيد انتاج هذه الذاكرة الشعبية بطريقة ساحرة مُبتكرة حيث تتشكّل الوجوه في أعمالها بطريقة مبهرة وخلّابة فالعيون الواسعة المكحولة نابضة بالحياة حدّ الجحوظ وهي تحاول أن تمتاح من الموجودات أجمل ما فيها، عيون قارئة، رائية، محبّة، تتحرّك على وفق ما تحبّ وتشتهي، وهذه العيون واضحة مرسومة بطريقة مميزة، ومحدّدة وكأنّها مركز الحياة، أما الأيدي والأكفّ فهي بحجم أكبر وكأنّها دليل على الكدّ والتعب فهي أيدي الفلاحين والعمال و"الغلابة" الذين يكدحون ليل نهار من أجل لقمة العيش. وهم بلا شك الأقرب لها ولعالمها وللحيز الثقافي الذي تتشرّب أفكاره، كذلك تبدو وجوه النساء البلديات مفعمة بالحياة، فهن يرتدين الملابس الزاهية والحلي الشعبية المتواضعة التي تجعل من الاحتفاء بالبساطة هو السمة الأهم والأبرز في أعمال هذه الفنانة. فكلّ شيء في فنّها يدعوك إلى تأمّل قوة المحبّة والابتسامة بوصفهما خيارا وحيدا لا بديل عنه، وكذلك يدعوك إلى تحريّ البساطة والبحث عنها ومن ثم خوض الحياة بهذه الوصفة السهلة الميسورة، حتى تكتشف عمق ما يختفي خلف مظاهر الوجود
المعقدة.
أما المخلوقات الغرائبية والعجائبية التي تظهر في العديد من اللوحات وتتسيّدها بشكل طاغٍ، فهي مخلوقات مُخلّقة داخل الحكايات الشعبية التي تتناقلها الأفواه من جيل لآخر، مخلوقات غير مُصنّفة، مجهولة بل قد تكون مخلوقات شبحية لا يمكن التعرّف عليها إلاّ داخل اللوحة أو الكوابيس أو الحكايات كما أشرنا، وهي تظهر لتعيد إلى المتلقي شعوره بأنّ الحياة لاتزال غير واضحة ولا يمكن فهمها أبدا، فزجّ الديناصورات والقطط الكبيرة أو الديوك والأفاعي والغيلان والمردة كلها إشارات إلى معان مختلفة تصبّ في إثارة المتلقي ليكون واعيا إلى مجاهيل تستحق منه أن يفكر فيها ومن ثمّ يعيشها وكأنّها الحقيقة. ولكن هي لا تريد منه أن يغور بعيدا، بل أن يهادن هذه المخلوقات مستمتعا بالحياة الغامضة وهو يخوض لذة الاكتشاف والتحقّق والتعرّف.
هذا فضلا عن رمزية هذه الحيوانات وخصوصيتها في الحضارة المصرية القديمة وفي المخيال الشعبي الخلّاق إذ تتصل بوشائج متينة مع معطيات حياتية قارّة في الوجدان الشعبي، ممّا يجعل ظهورها الطاغي محفزّا معرفيا يبثّ الرموز ويجعلها أشبه ببؤر سردية تتوالد منها المعاني على وفق فهم كلّ متلق للعمل الفني.
أما اللوحات التي تؤرشف الشخوص فتأتي قياساتها بنسب مختلفة عن نسب البورتريه الطبيعي المعروفة، إذ تلجأ إيفيلين عشم الله إلى نسب أخرى تراها أقرب إلى الواقع الذي تعيد تصنيعه برؤيا أليفة خاصة. إذ تتلاعب بطريقة كاريكاتيرية بالملامح فتبالغ بها وتضخم تفاصيلها، ولكنها في تلك الزيادات لا يمكن أن تكون قاصدة ما يريده فن الكاريكاتير في مقاصده المختلفة، بل هي تريد أن تجعل من تلك الأرشفة بهذه الطريقة محاولة لحفظ أجمل ما في الوجوه بأسلوب دال ومؤثر. وكأنها تريد أن تقول إن الوجوه جميلة وطيبة شرط أن نحبها كما نريد نحن، وكما نرسمها في
ذواتنا. وتحفل لوحاتها أيضا بتوظيف دال وجميل للحروف والكلمات إذ تحتوي بعضها على عبارات مقروءة كاملة، أو تكرار لبعض الحروف بطريقة مميزة، وهي في تتبعها لهذا الاشتغال تحاول استغلال الطاقة الجمالية للحروف العربية، فضلا عن رمزية الكلمة المقروءة والحرف في حياة الإنسان، فكلّ حرف يتشكّل بطريقة ما معبّرا عن معنى إنساني أو رامزا لفكرة معينة، إذ يتجسّد الحرف في المخيال والذاكرة المعرفية كأداة سحرية تارة، وكعلامة معرفية تارة
أخرى.
ولدت ايفيلين عشم الله العام 1948 في مدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ. تخرجت في كلية الفنون الجميلة، جامعة الإسكندرية عام 1973، أقامت عشرات المعارض المنفردة والمشتركة داخل مصر وخارجها، كما عملت لفترة ليست قصيرة صحفية بمجلة روز اليوسف (1973 - 1975) وفي عام 2000 شغلت منصب مدير المتحف المصري للفن المعاصر لكنها استقالت عام 2002. انتشرت أعمالها في العديد من المتاحف العالمية فضلا عن المقتنيات الشخصية في جميع أنحاء
العالم.