التنوّع المكاني وتطويع المخيلة في رواية فورور

ثقافة 2025/02/03
...

  علي لفتة سعيد


يتمتع نزار عبد الستار بقدرة على تطويع المخيلة وتحويلها إلى واقع، مثلما يكون العكس صحيحًا. وهو يمتلك كذلك قدرة مثالية على قيادة اللغة في التدوين السردي ومهارة الاشتغال، لكي يعطي فاعلية المخيلة باعتبارها واقعًا، وفاعلية الواقع باعتباره رواية. وكثيرًا ما يربط الأحداث التاريخيّة في الواقع ويزيح المفهوم المخيالي إلى الواقعي، حتى يشعر المتلقي والقارئ أنه يقرأ وقائع صحيحة مدوّنة، رغم أن الواقعية فيها هي استلال ملمح تاريخي أو واقعي ليبني عليه المنصة الروائيّة. وهو من ثمَّ يصنع لنفسه منطقة يقف معها، حيث يمسك الواقع غير المباشر والمخيال الرمزي، فيكون عمق الرواية هو ما تفعله اللغة بقيادة هذين المحورين.

لذلك، نرى أن الاستهلال لديه هو البوابة الكبيرة التي يدخل منها إلى مدينة الرواية، وليس العنوان. كما في رواية "فورور"، حيث يبدو العنوان نقطة في مركزية الأحداث، مثلما هو الضوء الكلّي الذي ربما سيكتشف القارئ أنه الذي ستُسلّط عليه فاعلية الحكاية.

الاشتغال السردي في الرواية -أو كما في كل روايات عبد الستار- لا ينطلق من جعل العنوان بوابة، بل يجعله عنوانًا راكضًا، وكل الأشياء تركض خلفه. لم يكن العنوان مركزًا تدور حوله الأشياء، بل كان متقلب الحركات والخطوط، تطارده الأحداث والأشياء. وحتى نعطي الأمر دليله، فإنّ هذه الكلمة وردت بنحو 150 مرة في الرواية بطرق مختلفة. ولهذا، تكون الأحداث والاشتغال يطاردان هذه "المفردة" لتتحول إلى بؤرة صراع ديناميكي. فمن يدرك تأويل العنوان يدرك الاشتغال الكلّي في الرواية، ومن يدرك قصديَّة العنوان يدرك العلامات الدالة على مخيالية الرواية وواقعيتها.

يركّز الكاتب على أمرين في هذا الاتجاه:

الأول: الفاعليَّة المخياليَّة، وهي أن كل ما ذكره مجرد خيال مصنوع بمهارة صانع السرد، الذي يمتلك القدرة على تطويع الخيال ليكون محورًا سرديًا يخلق منه رواية. تبدأ بإيهام وتنتهي بتصديق، وهذه تحتاج إلى قدرة على اللعب التدويني التي تتراوح بين الفكرة الأساسية والحكاية المركزيّة والمتشعّبة في الوقت نفسه.

الثاني: الفاعليّة الواقعيّة، إذ يعطي السارد الخالق الروائي أسماء واقعيّة ومعروفة ومشهورة لا تتبع منطقة أو قرية أو مدينة أو دولة بعينها، بل تنتمي إلى دول عدة لها تأثير ذاكراتي على المتلقي، فينعطف بالواقعيَّة من أجل التوصل إلى تصديق الحالة ووقائعها.


الإزاحة العنوانيَّة والاستهلال

"فورور" ليست مدينة أو قرية، وليست مجرد فرو يظهر في الاستهلال. فالاشتغال بدأ منذ اللحظة الأولى لتوزيع نقاط العنوان وفرشها على مساحة الحكاية لجمعها في بؤرة الفكرة. فالاستهلال نقطة واحدة متشعبة: نقطة الدليل لأنها تمهّد الطريق، ونقطة المدلول لأنها تُظهر معرفة الطريق الذي ستسلكه الحكاية، ونقطة الدلالة لأنها تتركز على تحليل الخطاب السردي.

جاء الاستهلال وكأنه حوار وضع بين قوسين صغيرين:

«مساء الخير، أنا صابر عفيف... الفورور السواريه الشنشيلا البيج الذي أهدتْه السيّدةُ جيهان السادات لجلالة الإمبراطورة سنة 1979 يعود لأمّي؛ مونولوجست كباريه "مولان روج" في بغداد: وحيدة جميل.»

هذا كلّ ما قُلتُه لسكرتير الشهبانو فرح ديبا بهلوي، قبل أن يُغلَق الهاتفُ في وجهي في الثامنةِ مساءً، وتَطردني دارُ مزادات "كريستيز" في التاسعةِ من صباح اليوم التالي.

هذا استهلال يُعدّ مباغتًا مثلما يُعدّ محمّلًا بالكثير من الأدلة، ويُعدّ مفتاحًا لدخول مدينة الرواية للوصول إلى النقطة النهائية في الرواية التي ترتبط بالعنوان. النقطة النهائية تأتي أيضًا على شكل حوار بضمير المتكلم، وكأن الراوي -هنا النائب عن الروائي- قد حمل كل العلامات الدالة على الاشتغال المنطقي واللعب التدويني وبنائية الرواية على فاعلية العنوان:

"سأرتدي الفورور الليلة على الأندروير، ونشتري شمبانيا، وندعو بدرية حتى ترى الكمان قبل أن يذهب إلى Conservatoire Libanais ونستمع إلى الأغنية التي كانت خالتك تعزفها يوم ذهبتَ لمقابلتها".

وما بين الاستهلال والنهاية تقع كل الاشتغالات التدوينيَّة لتكون قابلية التصديق منعدمة، وقابلية التحشيد للمناطق والأسماء بهدف إخراج المخيال إلى الواقع، ومن أجل ضخ العلامات والأعمدة التي تضيء النص على طول طريق الرواية التي تدور حول نفسها، ليبقى المتلقي في محيطها متسائلًا: أين أنا من الأحداث؟ وكيف بإمكاني الإمساك بتلابيب الرواية؟

ما يعجب في الرواية ليس حكايتها والأسماء التي ذكرتها، ولا الجرأة في طرحها التي تبدأ من الاستهلال، بل في ماهية اللغة التي تعطي الانسيابيَّة في تقبّل الأشياء (بكذبها) وتحويل الكذب إلى قاعة للمناقشة. وهنا تكمن صنعة الأدب. الكذب هنا لا يعني الكذب المصطلحي، بل إقحام الأمكنة والشخصيات المعروفة لتكون فاعلة في حكاية قد لا يجمعها رابط إلا رابط إقناع المتلقي بأن كل شيء واقعي وحقيقي. وهذه مهارة الكاتب، حتى لو كانت الأمكنة المبثوثة -وهي أمكنة دول وليست أماكن مقتصرة على بقعة واحدة مثل بغداد والقاهرة وبيروت ولندن ولشبونة وفينيسيا، قد اختارت الزمن ليكون غير مرتّب فيزيائيًا، لكنه مقنع احتماليًا. وكأن عملية الانتقال والتنقل هي عملية مباغتة تلزم الزمن ليكون مراقبًا للأحداث.

انتقال "الفورور" إلى الزمن والمكان لا يأتي بطريقة الزمكانية، بل كلٌّ على حدة. ولهذا فإن الإزاحة العنوانيَّة تأتي من خلال فاعلية الاستهلال، ومن ثم التحرك باتجاه الأسهم التي رسمها الروائي/ المنتج عبر تبويب الفصول وجعل كل فصل له عنوان متفاعل مع الحدث. فهو يبدأ بعنوان "من هاتف عمومي"، وهو مكان يتحوّر إلى زمان، حيث المحور فيه وحيدة المونولوجيست، لينتهي بفصل "وحيدة وبدرية". وكأنها رواية دائرية تهتم بحركة "الفورور" التي جعلها نكرة بلا "أل" التعريف، ولا "يا" المنادى، ولا غائية التمظهر الإعلاني.


المعامل التوصيفي ومهارة الاشتغال

يعتمد عبد الستار على مهارته المُخَيِّلِيَّة من جهةٍ، واللغة التي يلعب فيها في تكوين الجملة السردية وإقحام ما لم يكن بالإمكان إقحامه وجعله ممكنًا سرديًّا، سواء من خلال التوصيف أو التركيز أو التحليل. حتى لتبدو هذه الفعاليات هي المعامل التوصيفي لكل ما يدور في الرواية. فهي تمتلك ثيماتٍ متعددةً، منها الثيمة الفلسفيَّة: حيث تطرح تساؤلاتٍ وجوديَّةً عميقةً حول الحياة، الموت، الزمن، والقدر. الشخصيات في فورور تتنقل بين اليأس والأمل، بين الماضي والحاضر، مما يخلق بُعدًا فلسفيًّا واضحًا. وهي تضع أسئلةً لكشف هذه (الوجوديات):

"ألم يخطر ببالكَ يومًا أنّ كلَّ ما تعيشه هنا يُشبه نوعًا ما مسرحيّات الشوارع؟" (ص 16).

وهو ما ينتج عنه شخصياتٌ مُحمَّلةٌ ليس كما يُبَثُّ فيها من علاماتِ التواجد (في المهنة)، بل لكونه يسعى لتفكيك العُقَد التي تعاني منها الشخصيات، والمشحونة بالعواطف والصراعات. وهو ما جعله يضخُّ في كلِّ شخصيةٍ بُعدًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا أو فلسفيًّا، لكشف تناقضاتها، ومن ثم تفاعلاتها مع العنوان، مما أدى إلى وقوع صِدامٍ بينها:

"في سنة 1956، شنقوا أبي لأنّه قتل اثنين من أصدقائه رميًا بالرصاص خلال عشاء سمك، على ضفاف دجلة. كنتُ على وشك بلوغ السادسة" (ص 21).

إنَّ اشتغالًا كهذا يحتاج إلى مهارةٍ والاستقواء بتقنياتٍ سرديةٍ، وليس تقنيةً واحدةً، من أجل التواصل بين ثلاثة محاور:

محور الفكرة والصراع: الدوران عبر العنوان.

محور تداخل الأصوات: لجمع الواقع بالخيال، لتعزيز الهدف المركزي، والاقتراب من الرمزية أكثر من الواقعية التي أعطتنا أسماء الشخصيات.

محور مزج الواقع بالخيال: من خلال السِّحْرِيَّة التي تمنحها اللغة للسرد، والتي تقود الحدث العادي ليكون مركزيًّا، والحدث المركزي ليكون مُناوِبًا، من أجل إثارة الدهشة داخل الجملة السردية من جهةٍ، والمبنى السردي من جهةٍ أخرى، مع الاعتماد على المتن الحكائي.

ولهذا نراهُ يقترب من وصف الأشياء وإعطائها البُعد المقبول في الإطالة مثلما المقبول في واقعيتها:

"أغلب وقتي أقضيه في خزانة الغاليري مع 76 لوحةً وكمان خالتي بدريّة. أجلستُ حوريّة في مكتبي لتُسلّي نفسها بالألعاب الإلكترونيّة، بينما أنا مع لوحاتي المُوزّعة بين كامل الجدران، تُغطّينا الإضاءة الخفيفة المُبرمَجة المُسلّطة من السقف. كانت الخزانة بقياس 10 × 6 أمتار، يُوصَل إليها عبر ممرٍّ على شكل حرف (L)، جدرانها مُغلَّفةٌ بورقٍ أسود" (ص 81).

وكلُّ هذا مُتأتٍّ من خلال اللغة التي تُعطي نفسها في الكثير من الأحيان شاعريةً مقبولةً يخلق من خلالها التفاعل ما بين المتن الحكائي والمبنى السردي، سواء أكان واقعيًّا بحتًا، أو (مُخلَّقًا) سرديًّا، أو مُستَلًّا من التاريخ والأسطورة.

لهذا تكون الانتقالات بين المدن للكشف عن هذه الثيمة التي تتعلق أيضًا بالهاجس الإنساني، الذي هو مركز الفكرة وقالب المهارة والقصدية التي تنتمي لها كل الفعاليات السرديّة ومهارة الاشتغال. وكأنَّ الأسئلة التي تكون هي المستوى الفلسفي هي الأعلى في التركيز التأويلي في النهاية، حيث تكون بصورة الجملة بحثًا عن الخلاص والجمال مقابل الألم.