معرقلات الحوار الثقافي

ثقافة 2025/02/03
...

  ياسين طه حافظ


لم يكن الحوار ضئيل الشأن لدى شعوب كثيرة قديمة وجماعات. كانت وفود أو وسطاء بين قبيلة وقبيلة ودولة ودولة. لكنه لم يكن فاعلاً في حل أسس الاشكالات، وهي اقتصادية تخص المراعي والأراضي الخصبة وحدود الممتلكات، أو المقاطعات. فكانت تحَلّ المشكلة وتعود ثانية أو تعود مثيلتها، وهكذا لقرون.

العصر الحديث امتلك منظوراً اجتماعيّاً وسياسيّاً بغية التحكّم بالإدارة الاقليميَّة والسيطرة. هو لم يترك التفاهمات للصدف أو رهن الأحداث بعد حدوثها. تغير التفكير الحديث وابتعد عن "الما بعد" إلى "الما قبل". فهو يرسم قوانين ويُنظِّر لضمان سلامة المستقبل. كما للسيطرة على الحاضر.

فأوربا طوّرت مجموعة ممارسات قائمة على التشاور والإقناع والتفاوض، من شأنها أن توقف ما يُخشى، وأن تضع للأمور نظاماً ملزماً متفقاً عليه، وهذا سيكون له من بعد تماس واثر في مجتمعات أو دول أخرى. هي بهذا النظام أو الأنظمة ترعى توقعات تغيير اجتماعي في البلدان القريبة التابعة أو المتعاونة. هذا التغيير الاجتماعي غالباً ما يكون بقيادة سياسية. هذا يختلف عن ذلك القديم، هذا أكثر دهاءً وعلميَّة، مصالح وجاذبيَّة التغيير، أو التحديث النسبي، فاعلان مهمان. وفي الغالب جديدان على مجتمعات كانت مملوكة وبينهما مسافة واسعة من الفصل الاخلاقي، لكن من التعاون الودي أو الاستراتيجي البسيط. صار ممكناً التعويل على هكذا أنظمة جماعية ملزمة، لبناء سياسات جديدة ورسم استراتيجيات سياسيّة وتجاريّة فضلاً عن الاجتماعية، أشرنا إليها- بالتغيير الاجتماعي والأخلاقي.

هم بهذا يبتغون السيطرة على ما يحدث ولكن على تحويل طاقة المشادة أو النزاع إلى اتجاهات تبعد حيويتهم الجديدة عن فعل العرقلة وتفتح بها طرقاً لفعل "الوئام" تمهّد لاتفاقات تساعد على الأمن والاقتصاد، ومنها إلى تحالفات أو تآلفات دوليَّة أكبر بحكم تطور هذه المصالح. انضمام الدول التابعة لا يتوقف، تأكيداً لتقدمها ولحاجتها لمراكز التحالف. دول صغيرة ومتوسطة تتوسّل بمقومات وتعاونات خاصة للانضمام للتحالفات الكبيرة. صار هذا مكملاً لأهمية البلد لا انتقاصاً من حريته. هو لم يعد شتيمة! هكذا هو البناء، بناء الحضارات والمجتمعات الجديدة، عبر تغيير سلمي وخفي، عبر حركة مرنة في التفاهم وبناء مصالح مشتركة تؤسس جميعها الى تقدم والى تطور حضاري بروح العصر وبما يلزمهم ليستطيعوا الحركة والتقدم فيه. نحن في مراحل مثل هذه نتحول من الفردي أو الفئوي الصغير الى الاتحادات والتآلفات الكبيرة، ومن الوطنيَّة الكبيرة الى الكبرى عند تكامل التحاقها بالتحالفات الدوليَّة.

لنا أمثلة واضحة وقريبة من هذه التحالفات الدوليَّة في ميادين حقوق الإنسان وقوانين أخرى بصيغة توصيات تتبناها الأمم المتحدة ومعاهدات الاتحاد الأوربي والتحالفات السياسية والتجارية الجديدة بين روسيا والصين، ثم بين كوريا الشمالية وروسيا والصين في التعاون على استثمارات برامج الدفاع المشترك.. وهذه بالتأكيد أن لم تنتهِ بحرب مع سواها، ستنتهي بتحالفات مع الدول الأخرى التي يهمهم أمرها. فأمام قوى التدمير الكبيرة تُضيّق التحالفاتُ الخناقَ على الدول الأضعف فتستجيب لأحلافهم. هذا الفعل الذي يبدو مستنكراً، يتخذ له في التطبيق سلوكاً طبيعيّاً لأنّه يتقدم أو ينتشر بجزيئات ناعمة في تلك المجتمعات مما يجعله مألوفاً وغير مستفز، فضلاً عن أمنيات أو أحلام تلك الشعوب بالتغيير الى الأفضل، وأحياناً من اللاحل آخر غير هذا!

معنى كلامي أن لا حلَّ لمشكلات هذه الدول الصغيرة أو الكبيرة الضعيفة إلا التفاهم والمشاركة في المصالح. هي في حالات ليست قليلة ترتضي ما كرهتْ، وتتقرّب لمن تخاصم أو ما تخشى. هي تبدأ مرحلة جديدة ترحّب فيها بالتحولات التي تنسجها الستراتيجيات والبرامج الخاصة لتلك الأقطاب. والدول الجديدة المتحالفة والتابعة الموالية التي انضمت، لا تدري ما ينتظرها، هل ستحارب وتقدم ضحايا لأهداف سواها، من الدول الكبرى، أم ستستثمر وتنتفع من تقدمها ومن مشاريعها؟، لا خيار، هي مضطرة للمولاة ثم هي مضطرة للانضمام لكن، وعموماً ثمة ربح على نطاق الأفراد وخسارة على نطاق الشعب ووطنيته وقراره، وتكون قد غابت "آمال الشعوب"، و "حرية الشعوب" و "الاستقلال الوطني"... الخ. الشعوب تكون، ومن الآن، رهن ارادات أكبر. على أية حال تطور الأهداف السياسية والعلاقات الدولية يوجب تغيير المُثل والقيم الوطنية وبعض التغيير، لا كله، غير متأكدين من عاقبته أو أن كان سيستمر إلى الأفضل. الاحلاف وفكرها السياسي لا تظل تعمل على المنهج نفسه، لا تبقى تعمل على استراتيجيات واحدة، بل تنكشف اتجاهات غير متوقعة.. والدول الموالية لا تشهد في مراحل تحولها استقراراً، قدر ما تتحمل ما هي مرغمة على تقبله. السيطرة المحلية، المدعومةً، لن تسلم من انشقاقات وانفصال بعض من فصائلها لأحلامها السياسية، فيهدد اختلافها التآلف الاجتماعي والوحدة الوطنية لتبدأ منافسات وتنازلات أخرى بين المختلفين، كل يسترضي جهة ليقوي أو ليبقي ويتقدم. وثمة من يثير الخلاف ليثيروا حاجته وشهيته لتقرّبهم منه. هي لعبة الدول الكبرى على مناطق نفوذها. ناس المجتمعات، الموالية هذه أو التي انضمت سيتخاصمون داخل بلدانهم، بل يتقاتلون. والحوار نادر وصعب- أو غير صاف حتى بين النُخَب والنخب أول المساومين.

نحن الآن بإزاء أخلاقيات أخرى وبإزاء توظيفات من الخارج للخلافات المحلية وتوجيه وتحويل ووعود وتنحية الخلافات وآثارها حسب الحاجة والظرف. في ظاهر منها قد تكون خلافات فكريَّة. ولكن أن تتخذ أشكال تنظيمات مسلحة وبمظهر وغطاء سياسي أو فكري، فهذه حال تستوعب التوقف والتساؤل، وأول، أول الأسئلة، عن مصادر التمويل والتسليح. يمكن أن نكتشف الكثير من توجّه الفضائيات لنعرف مصادر هذه الحركات أو التمردات. على أية حال، في ظروف مثل هذه، ثمة ما يدعو للتأني في الحكم وثمة ما يستوجب تقليب الأمور.