الحياة السريَّة لوالتر متي

ثقافة 2025/02/04
...

  هدية حسين


على مدى أكثر من أربعين عاماً وأثناء عملها في مجلة ألف باء، ترجمت الروائيَّة ميسلون هادي مجموعة من القصص والأخبار والتحقيقات، واختارت إحدى عشرة قصة لكبار كتاب العالم فأصدرت كتابها "الحياة السريَّة لوالتر متي" عن دار وتر للنشر والتوزيع، كتاب يضاف لإنجازات ميسلون هادي ويلقي الضوء على كتّاب تلك القصص، ومن الملاحظ لدينا أن بعض أولئك المبدعين كانوا على قيد الحياة عندما نشرت قصصهم (في بداية الثمانينيات) ومنهم جون أبدايك وجيمس سالتر وغراهام غرين كما أن اختيار المترجمة وقع على كتاب ولدوا في القرن التاسع عشر واستمر عطاؤهم لمنتصف القرن العشرين أو أكثر أمثال أرنست همنغواي وجيمس ثاربر وجيمس جويس وكاترين مانسفيلد.

لماذا هذه القصص، حظيت باهتمام ميسلون هادي دون غيرها؟ جاء الجواب في مقدمة الكتاب (لأنها تركت في نفسي الدهشة والأثر المختلف، ولعل ذائقتي الشخصية كاتبة وإنسانة قد جعلت الاختيار لصالح قصة من دون غيرها، وكاتب من دون آخر) إنها إحدى عشرة قصة لأحد عشر كاتباً، وسنتناول في هذه المقالة قصتين من هذه القصص ونعرج سريعاً على بعض القصص أخرى.

قصة "نهاية الحفلة" لغراهام غرين

إنّها قصة نفسية بامتياز، بطلها توأم، بيتر وفرانسيس، يتشابهان ويشعران بالمشاعر نفسها تقريباً، أما الاختلاف الذي ركز عليه المؤلف فهو أن فرانسيس يخاف من الظلام، ولطالما حاول بيتر إنقاذ أخيه من ذلك الخوف عن طريق مواجهته ولكن من دون جدوى، يغوص غراهام غرين في أعماق فرانسيس وهو يواجه الخوف من خلال حفلة حاول تجنب الذهاب إليها ولكنه لم يفلح، الحفلة أساساً مقامة للأطفال، يلعبون فيها لعبة الاختباء (الغميضة) والتي تحدث في الليل، وعلينا أن نتذكر أن أحداث القصة تدور قبل زمن الكهرباء، وفرانسيس لا يريد كشف مخاوفه للأطفال الآخرين لكي لا يسخروا منه، وها هو يواجه مصيره، ولأنَّ بيتر الذي يحبه ويحنو عليه لا يريد له إلا أن يكون شجاعاً في مثل هذه المواقف، فإنّه يحثه ويطمئنه أن لا شيء يحدث في الظلام، لكن بيتر يعجز عن إقناع أخيه بطرد مخاوفه، عندها يلتصق به ويؤكد له بأنه سيكون الى جانبه خطوة بخطوة، حين تبدأ اللعبة، تنتقل تلك المخاوف الى بيتر عندما أطفئت الأنوار واختبأ الجميع لتبدأ اللعبة، وكلما تسارعت دقات قلب فرانسيس كانت نبضات بيتر تتسارع أيضاً الى الحد الذي لم يكن بمستطاعه التخفيف عنها فتوقف قلب بيتر ومات، فكيف انتقلت مخاوف فرانسيس الى أخيه بيتر؟ هذه لعبة غراهام غرين الذي جعلنا نتابع القصة بشغف ونتذكر بعض المعلومات التي تعلنها الدراسات من حين لآخر عن التوائم الذين يتشابهون حد التطابق أحياناً في المشاعر وفي السلوك، ويصدف أن تنتقل الأفكار والمخاوف من أحدهم الى الآخر عن طريق التخاطر، وهذا ما يمكننا تلمسه في قصة غراهام غرين الذي كسر توقعنا في نهاية القصة.


قصة "الجدار" لفرجينيا وولف

قد تبدو فكرة قصة الجدار لفرجينيا وولف عادية وبسيطة، يمر بها الكثير من الناس، هي حالة تحدث وتمر مروراً سريعاً أو تعلق في الرأس فلا تغادره إلا بعد أن ترميه الى أفكار أخرى لا علاقة لها بالفكرة الأولى، مثل ما حدث للشخصية المحورية الوحيدة في قصة فرجينيا وولف، حيث ترقب شيئاً ما على الجدار الذي يقع تحت مرأى نظرها لا يتضح إلا في نهاية القصة، وبين نظرة وأخرى تنقلنا فرجينيا وولف الى ما يرد على خاطر الشخصية، فتتذكر أشياء أخرى لا علاقة لها بالعلامة التي تراها على الجدار، أشياء تتعلق بذكريات قديمة بعضها يعود الى الطفولة، تمر مثل أطياف عابرة تمضي سريعاً، وثمة أخرى تتزاحم وتتحرك قبل أن تمضي، وتأخذ أخرى شكل أفكار عن لغز الحياة عموماً وكيف تراها (كم هي عشوائيّة هذه الحياة بعد كل تلك الحضارة، لأحصي فقط بعض الأشياء القليلة التي يخسرها الإنسان خلال حياته، البداية، لأنها تبدو دائماً أكثر الخسائر غموضاً..) لا تأخذ تلك الخسائر الكثير من وقت الشخصية فثمة أشياء أخرى تغرق فيها قبل أن تعود الى تلك العلامة على الجدار، ومنها الأمنيات، أمنيات بسيطة لا تتحقق (أريد التفكير بهدوء وبسكينة، بسعة وشمولية من دون أن يقاطعني أحد أو شيء، من دون أن يكون عليّ النهوض من على مقعدي، من دون أي إحساس بالعداء أو العقبات، أريد أن أغوص أعمق وأعمق بعيداً عن السطح المليء بالحقائق المختلفة القاسية، من أجل أن أستقر لأدع نفسي تمسك بأول فكرة مرت بخاطري..) ص150

وبعد كل ابتعاد مؤقت لفكرة ما تعود وتتساءل عن ذلك الشيء الذي يقع على جدار البيت القديم الذي سكنه أناس قبلها، فهل هو مسمار قديم دُقّ منذ مئتي سنة مضت وتآكل بمرور الوقت، أم ورقة ورد تيبّست في حفرة الجدار، أو شرخ حدث بفعل تراكم الزمن؟، كل تلك التساؤلات وشجون الكلام مع النفس والاستذكارات تحدث وهي جالسة لا تنهض من مكانها لتكتشف ما هي تلك العلامة على الجدار، هل منعها الكسل، أم أنها معاقة لا يمكنها النهوض وبانتظار من يساعدها، أم أنها امرأة قانطة تعيش فراغاً هائلاً يجعلها تنشغل بشيء لا تفصح عنه الكاتبة إلا في السطر الأخير من القصة فقط لتقول لنا بأن أشياء كثيرة في الحياة تشغلنا وتأخذ من وقتنا وتتلاعب بمشاعرنا وهي ليست أكثر من.. سلطعون وجد له مكاناً على الجدار.

تتنوع الأفكار والأساليب من كاتب الى آخر، وعلينا ونحن نقرأ هذه القصص أن لاننسى الزمن الذي كُتبت فيه لنتعرّف على تلك الأفكار أو الحياة التي كان الناس يعيشونها في زمن تحجبنا عنه مسافات طويلة، لكن بعض الأفكار عبرت الزمن ولما تزل تداعب مخيلتنا، ومنها قصة (الحياة السريَّة لوالتر متي) للكاتب جيمس ثاربر والتي تحولت الى فيلم سينمائي العام 2013، يقول الشاعر وديع سعادة (على البشر أن يحتفظوا بأوهامهم، أن يداروها فلا تغادرهم، سيحتاجون إليها لكي تؤنسهم) ولعل هذه المقولة تنطبق على بطل القصة والتر متي، حيث لا يجد مفراً من حياته الخاوية سوى الهرب الى تلك الأوهام والأحلام التي يصنع منها حياة تكسر روتين حياته، فيقوم بمغامرات عدة ويتنقل بالزمن حيث يشاء.

وفي قصة الاعتراف الأول لفرانك أوكونور سنقف أمام حيرة صبي يضطر الى الذهاب للكنيسة ليعترف للمرة الأولى بخطيئته، ترى ماذا فعل هذا الصغير وكيف سيتصرّف أمام القس وهل سيخفي بعض التفاصيل ليكون اعترافه ناقصاً أم أنّه سيقول الحقيقة كلها ويتحمّل النتائج؟، وكما جاء في الهامش فإننا في هذه القصة "نجده يوظف حسَّ الفكاهة لمعالجة موضوع في غاية الجدية هو موضوع الخطيئة والإحساس بالذنب".

لا تسأل عن أسباب السعادة حينما يهاجمك الشعور بها، دعها تدخل قلبك وتغمره بكل ما هو جميل قبل أن تغادرك، فالسعادة لا تدوم طويلاً، هذا ما خلصتُ به بعد الانتهاء من قصة (سعادة) وهي من أشهر قصص الكاتبة كاترين مانسفيلد، لقد عبرت السعادة من فوق أكتاف الزمن ليحل بعد زوالها ما يعكر صفو الحياة، وسنترك التفاصيل للقارئ مع حزمة من قصص أخرى لكتّاب تركوا لنا إرثاً يستحق القراءة والتأمل.