الاستعمار الناعم والخبيث يتمدَّد ولا يُحرر

ثقافة 2025/02/05
...

جاكلين سلام 


حين وضع المخبري الباحث عدداً من الجرذان في قفص متوسط الحجم وفي شروط صحية عادية، كانت الألفة بينهم قائمة وطبيعية. كانوا يأكلون ويشربون ويلعبون ويقضون حاجاتهم واحتياجاتهم ويتناسلون على الأرض ذاتها، أرض القفص الذي لا مفرَّ لهم منه.

جاء الباحث المخبري ليدرس طباع الجرذان وانفعالاتهم العدوانية. صار يصدمهم كهربائياً جميعاً وفي نفس الوقت. فيقوم كل جرذ بالانقضاض على جاره لينهش فيه معتقداً أنه السبب في هذا الأذى. بعد أن ينهك الجميع بعضهم بعضاً يذهبون إلى النوم. استمر المخبري في تجربته عدة أيام ورأى نفس ردَّ الفعل لدى الجرذان. إنها تقتتل فيما بينها لتفرِّغ هذه الشحنة من الألم والغضب، فيما المخبري واقف خارج الصورة. الجرذان لا تستطيع أن ترى الصورة الكلية. نحن نتحدث هنا عن الجرذان، فما بالك بهذا الكائن المسمى إنساناً ويعيث قتلاً في الأرض وأبناء الحياة! 

*

الأفلام العالمية التي تركز على ضخِّ العنف والاقتال سواء في حرب النجوم أو حروب الشعوب عبر التاريخ، لعبت خلال عقود على وتر حَيْوَنة الإنسان ولاقت رواجاً، نجحت في بعض الأحيان وفشلت في أحايين كثيرة. وسواء أكانت الغاية والوسيلة هنا سيطرة رأس المال أو تجار الدين أو الحيازة على السلطة المطلقة لخنق الحريات، فإن ذلك يجعل من البشر جرذاناً صغيرة وربوتوات فاقدة للمحاكمة العقلية، ولا يجعل منهم عمالقة في الروح والفعل والبناء الإنساني. 

الحضارة لا تستمر ولا تُشاد على الخرائب الفكرية والإيديولوجية. الإنسانيون حملة المِعول وعليهم يقع البناء والتقدم الحضاري.

*

تروما الجماعة

أتباع فصائل الدعوات الدينية المتزمتة والمجموعات المتزايدة والمتنافرة في بلاد الشرق المختلفة لا شكَّ يصبح لديهم ما يشابه ( تروما) أو صدمة ما بعد الواقعة.  ولعلهم أصيبوا بالصدمة بعد دخولهم سوريا التي ليست حظيرة مباحة، ولم تكن يوماً رغم القتل الممنهج والسجون التي ابتلعت أعداداً هائلة من أفراد الشعب السوري في ظلِّ حكم الأسدين الجائر المستبد على مدى عقود. محاولات قتل روح الإنسان عبر تاريخ سوريا الحديث لم تنجح ولم تجعل السوري إلا توّاقاً للحرية والمدنية والجمال رغم وجود كتل كثيرة من الكائنات التي باعت روحها لتجار الطوائف والسماسرة الكبار خلف الكواليس وعلى الملأ. 

الصدمة الثقافية هذه يشعر بها  فرد أو خليّة من مدينة كبيرة أو قرية صغيرة متخلفة وجاهلة وخارج السياق التاريخيّ للحضارة حين يجد نفسه في مكان غريب عنه تماماً ويشعر بالتالي فإن وجوده مهدّد ومزعزع أمام الوجه الحضاري للمرأة والرجل في بلد لا يليق به إلا الشموخ والكرامة، فيبدأ بارتكاب العنف والترهيب كي يُخيف من حوله وهو في قرارته جبان ونذل وخائف. حدث، أن اعتدى مسلحون على أنفار عزل من النساء والشباب والرجال وبطريقة بدائية مُهينة ظهرت في تسجيلات قادمة من سوريا اليوم، وللأسف.

في بلادنا يُطلق الجبناء والمتطفلون على الشام، الرصاص في الهواء وفي وجه الأفراد العزَّل أحياناً، كي يقنعوا أنفسهم والآخر بأنهم سلطة عسكرية غير جبانة. يسمون تلك الأحوال “حالات فردية” وأنا أسميها همجية عدوانية وكل اعتداء على فرد واحد هو اعتداء على المجتمع برمَّته وعلى مفهوم الدولة والمواطنة وحقِّ الفرد في العيش بسلام وتكافؤ في رقعة اسمها سوريا-الوطن. تعريف الجبان، الشخص الذي يقتل الفرد المسالم الأعزل جبان، ولأن الأعزل يسخر من سلاح الإرهاب وكل الأيديولوجيات القاتلة التي أوصلته إلى تلك الحالة.  ولذلك يلبس بعضهم الأقنعة على وجوهم كي تستر جبنهم وحقيقتهم. 

*

كل دراسة واختبار نفسي أو ميداني مهم في المراحل الفاصلة من تاريخ الشعوب، وتتم ترجمته إلى لغات العالم. بعضهم يتعلم درساً وبعضهم يعجز عن فهم شيء خارج الأدلجة والتلقين الذي غسلوا به دماغ بعض القوافل البشرية ولغايات استعمارية لا تخدم البشرية في شيء، بل تسبِّب الدمار والكوارث. 

نشرات الأخبار العالمية والعربية تترجم (من وإلى) حسب الأهمية لذلك لا بد من فتح أبواب المعرفة وتعلم اللغات الأخرى كي يقرأ الفرد حضارة بلاده وثقافة أعدائه أيضاً أو نظرائه في حقل المعرفة والإبداع الثقافي والاجتماعي والأدبي. وبين فعل الترجمة الفوري والتحريري يبني المترجمون من الكلمات جسوراً بين الأول والثاني، فيما يتواصل القصف في هذا البلد وذاك بكل اللغات وعلى جبهات وفي الشوارع والبيوت. 

وتبقى اللغة والحوارات، وسيلتنا البشرية الوحيدة في فقه الحب وصياغة أسس التعايش معاً بسلام وعدالة في أي زمان ومكان.

*

ماذا قالت البنت التي وقفت في وجه طالبان من أجل حقها في التعليم؟

صار اسم الفتاة الباكستانية(ملالا) علماً بارزاً في المحافل الدولية بعد أن نجت من الموت لتصير حاملة لجائزة نوبل للسلام تقديراً لجرأتها ورمزية فعلها التاريخي في وجه السلفية الطاغية. صدر لها كتاب يروي سيرتها بتفاصيلها التي هي حال شعب وبلد برمَّته وقع ضحية للمحتوى الطالباني السلفي المنبوذ دولياً.

مالالا يوسافزي تصف في هذا القسم من كتاب سيرتها الذاتية وحال بلدها وأسرتها في الأيام الأولى لدخول جماعة طالبان إلى قريتها في باكستان. تصف أسمالهم وقونهم، أصواتهم وطريقة استمالتهم للناس، ثم التدخل في الحياة الشخصية للأسرة والأفراد وسحب أجهزة الموسيقى والتلفزيون واتلافها.  

التاريخ لن يكرر نفسه في سوريا بتصوري ولدينا مليون ملالا - نساء سوريات تقول لا للقمع وحجر الحريات وإعادة المرأة إلى المطبخ.

قالت مالالا يوسافزي في كتاب سيرتها الذاتية، مترجمة: أول ما فعلته جماعة طالبان أنهم منعوا الموسيقى ومشاهدة التلفزيون. وقدموا للأهالي ترجمة جديدة للقرآن الكريم.

كان قائد الجماعة ( فظل الله)  Fazlullah يبدو حكيماً في  البداية وقدم  للناس ترجمة  إصلاحية للقرآن.

وكانت أمي متدينة جداً وصارت معجبة بتعاليم فظل الله الذي أعطى توجيهات بأن على الشباب ترك ذقونهم حرَّة طويلة والامتناع عن التدخين والحشيش. وصار يعلمهم كيف يغسلون جسدهم وبأي قسم يبدؤون أولاً. كان صوته أحياناً معقولاً  وأحياناً حادّاً ومليئاً بالنيران وأحياناً كان يبكي وهو يتحدث عن حبه للإسلام. ثم يتبعه نائبه عبر الراديو . ( شاه دوران) الذي كان سابقاً يبيع  ( على البسطة تسالي) للناس في سوق البازار. وقال على الناس أن يكفوا عن مشاهدة الأفلام وعن الرقص لأن ذلك خطيئة وحرام …وقد يسبب الزلالزل.

سألتُ أبي: هل هذا صحيح  يا أبي؟

إجابني لا يا روحي، إنه فقط يغرِّر بالناس. 

وكانت الرسائل وخطب فضل الله مركزة على المرأة ودورها المحدود.

“من مهام المرأة أن تقوم بواجباتها  في البيت وتستطيع مغادرة البيت فقط في حالات الطوارئ ويجب أن تلبس البرقع”

وبالطبع لا يمكن لهذا النموذج الرجعي أن يسود في أي مكان من العالم حتى إن وجد أتباعاً وبعض قطّاع الطرق والمخربين الذين يسعون وبلا جدوى.

*

إذا كان “الطغاة يجلبون الغزاة” كما قال ابن خلدون، فالتاريخ يشهد أن لا طاغية صمد في وجه الإرادة الحرَّة للشعوب، ولا الغزاة صاروا أصحاب البيوت وحماة الوطن. الاستعمار الناعم الخبيث يتمدد ولا يحرّر، لأنه غير حرٍّ من الولاءات والإملاءات التي لا تفقه شريعة الخير والمساواة بين أبناء الوطن الواحد. لقد فرّ ديكتاتور سوريا مؤخراً تاركاً في كل بيت سوري ألف غصَّة، وألف حلم نحو الحرية المدنية اللائقة بمن بقي حياً ويحلم.