ما قصة {قطرة العين} لنجيب محفوظ؟

ثقافة 2025/02/06
...

 جمال العتابي 


ما الذي يجعل من كتابة اليوميات والسيرة مصدر إثارة للمتعة والاهتمام؟ هل يجد القارئ ملامح من حياته في هذا النتاج الفكري، وهل أن واقعية الكتابة في الأحداث والشخوص، هي الأساس؟ أم أن المخيلة السحرية هي التي تأخذ بالقارئ نحو عوالم قائمة ومثيرة وكاشفة، لها حالاتها من القبول والرفض والتوتر، ومثلها الانشداد للوقائع التي لها أسبابها ودرجات التعلق بها؟

تلك الأسئلة وسواها مجتمعة يمكن أن تواجهنا ونحن نتابع بشغف (أيام العراقي في قاهرة نجيب محفوظ) القاص والروائي عائد خصباك "مائة ليلة وليلة" التي سبق أن نشر حلقات عديدة منها في منصات التواصل، جمعها أخيراً في كتاب صدر مؤخراً عن دار ميزر في السويد في هذا العام 2024.

" أيام" عائد تمثل سيرته الشخصية في مدة محددة قضاها في القاهرة أوائل سبعينيات القرن الماضي، ما كانت الفترة طويلة كما يذكر ذلك في مقدمتها، لتقع فيها كل الأحداث المكتوبة، لكنها وقعت وكانت بشكل وآخر حافلة بالحياة. الطريف في الأمر أن عائد اختار كلية آداب جامعة القاهرة لإكمال دراسته العليا فيها، وهو المتخرج تواً من  كلية آداب جامعة بغداد، لكنه سرعان ما ركن هذا الهدف الذي سافر من أجله، وراح "يخترق" المشهد الثقافي في العاصمة بقدرات عجيبة وسريعة، ربما ما كانت تتهيأ لزملاء آخرين، حتى فرصة السفر، لم يكن بالميسور على أدبائنا حينذاك الإقدام على هذه الخطوة، والمغامرة في ترك مقاعد الدراسة ليجد البديل في مقاعد مقاهي "ريش، ايزافيتيش، فينكس" وغيرها، فكان يومياً مع أهم أدباء مصر ومثقفيها من شعراء، وكتاب قصة وروائيين وسياسيين، وصحفيين كبار يشرفون على أهم مجلات وصحف مصر في فترة ازدهارها وتوهجها.

أعتقد أن عائد خصباك يمتلك من الموهبة والجرأة والثقافة بما أهّله الخوض في معترك الحياة الثقافية بالطريقة التي عاشها واختارها، فعائد ما زال في بداياته الأولى في الكتابة، لكنه بنفس القدرات وبجدارة استطاع أن يجد له حيزاً متقدماً بين كتاب القصة من جيل الستينات، في أول مجموعة قصصية له صدرت اواخر ستينات القرن الماضي عنوانها "الموقعة". عن دار مجلة "الكلمة" لصاحبها الراحل حميد المطبعي، أثارت المجموعة انتباه النقاد كامتياز أول لها، فكتبوا عنها، أما الامتياز الآخر الذي حظيت به المجموعة، هو غلافها الجميل الذي صممه الشاعر الراحل مؤيد الراوي، ومن هو ذو الحظ السعيد الذي ينال هذه الفرصة غير صاحب "الموقعة". 

في القاهرة، أقام عائد غير مصدق  وسط هذه الاسماء اللامعة والمهمة من مبدعي مصر، ابراهيم صنع الله ويحيى الطاهر عبد الله وابراهيم اصلان وادوارد الخراط من كتاب القصة والرواية، ومحمد عفيفي مطر وأمل دنقل في الشعر، ونجيب سرور في المسرح، ويوسف ادريس وغالي شكري وسامي خشبة من كبار النقاد والكتاب المصريين. يلتقي توفيق الحكيم صباحاً، ويسامر ادوار البياتي مساءً. 

"مائة ليلة وليلة "، هي العصر الذهبي لعائد خصباك،  هي بعض من وقائع الأحداث اليومية التي جرت مع هؤلاء وغيرهم، قد تبدو مفرداتها بعيدة عن اسهاماتهم في الكتابة أو النشر، كما يقول خصباك، لكنها لا تنفصل عنها، قد تثريها وتزيدها عمقاً، أو تزيح بعض الاشكالات عن الكثير مما خفي في الأعمال الأدبية لكل منهم.

هذه السيرة بنية متعددة متحركة متعددة الأوجه، نجاحها يعود الى حرية الكتابة وكسر قيودها التي تشكل خطراً على المبدع، إلا أن خصباك لا يبدو في هذا العمل في حالة اختلاف عن كل ما قرأنا له واعجبنا به من قبل، لقد استطاع ان يواجه نفسه وظروفه، وهو ينظر الى الكتابة كمتعة ومعاناة معاً،  عبارته سهلة واضحة فصيحة واقعية لا تحتمل التأويل، لا يسعى إلى الرمز والتورية، بل تقوم على وجه واحد وعلى دقة ما تمتلكه من حس انساني رفيع المستوى، يضمنمها مفردات و"نكتة" من اللهجة المصرية، تمنح لغته ديناميكية لذيذة وحيوية. ومعماراً متقناً بلغة صافية. 

تعود أهمية الوقائع في الكتاب إلى أن القارئ لم يطلع على مثلها سابقاً حسب رأي الكاتب، إلا في حالات نادرة ربما، ذلك أنها وقائع شخصية التقطها عائد، فكان لها مكاناً في الذاكرة انطلاقاً من مرجعياته الفكرية ورؤاه الفنية،

السيرة تجربة حياة في امتحان الذات في بعديها المعرفي والنفسي، تكاد التجربة تتحول إلى سردية تتشابك فيها الأجواء والشخصيات والأفعال والمفاجآت، وعوالم شتى تنتقل بين الأمكنة والأزمنة على حد سواء، فكان خصباك ثرياً في تجارب حياته كانت له عوناً في تقديم هذا الكم من الجمال البالغ العذوبة. حكايات ممكن أن تتحول إلى روايات لا حصر لها.

عائد خصباك ابن مدينة، ليست كباقي المدن أنها الحلة، مدينة بابل الحضارة والثقافة والأدب، فيها مكتبة عامة، وسينما وحياة مدنية منفتحة على الفن، عامرة بأهلها المتعلمين، يسرت له أجواء المدينة الدراسة والتعلم، وهو سليل عائلة تشربت بالثقافة والعلم، فقرأ الأدب، وتعرف على الأفلام العالمية والعربية، حفظ عناوينها وأسماء ممثليها، كما عرف اسماء المغنين والملحنين، وحفظ الاغاني، كانت كلها عدّته في دخول عالم القاهرة الفني والأدبي، القاهرة في مجدها الستيني، لم يجد في ذلك صعوبة، يحاور ميمي شكيب، يتلفن لنجاة الصغيرة ويلتقي عبد الحليم حافظ وسيد مكاوي ومحسنة توفيق وسميحة أيوب. والملحن كمال الطويل. 

اعتاد عائد أن يمر مساءً على الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي كان لاجئاً سياسياً في مصر، ثم يمضيان يقضيان الليل حتى الفجر، يلتقي خصباك بصلاح جاهين وابراهيم فتحي ويحيى الطاهر عبد الله ومحمد ابراهيم ابو سنة وغالب هلسا وابراهيم اصلان، ومحمد عفيفي مطر، تعرف على عبد الرحمن منيف، وخيري شلبي، ويلتقي نجيب محفوظ مساء الجمعة.

 "قطرة العين" إحدى  أهم الحكايات اثارة، حين التمس نجيب محفوظ من عائد أن يسأل عن قطرة لعينيه مفقودة في صيدليات مصر، اكتشف أنها موجودة في صيدليات العراق، زعم خصباك انه سيوفرها له بعد الاتصال بصديق له في بغداد، وتمكن فعلاً من توفير القطرة بأربعة علب في وقت قصير جداً، والحقيقة غير ذلك تماما، فالمعلومة التي خصّني بها عائد، لم يعرفها أحد سوى الراحل جابر عصفور بعد أن ألحّ بالسؤال بدهشة بالغة. 

راح عائد مسرعاً لحجز تذكرة على أول رحلة إلى بغداد على الخطوط الجوية العراقية، ليعود ومعه أربعة علب من "القطرة" هدية لمحفوظ. ومن طريف ما يذكر خصباك أن الصيدلي أهدى علبتين حين عرف أنها مرسلة الى نجيب محفوظ، قائلاً لعائد: أرجو أن توصل لي أربع قبلات، واحدة للثلاثية، والثانية لأولاد حارتنا، والثالثة للّص والكلاب والرابعة لثرثرة فوق النيل.

تبدو مرآة الذاكرة لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة، لكن عائد الذي يخفي ثراءً بموهبة متميزة يستعيد بعد أكثر من نصف قرن الأشياء والوقائع بتفاصيلها، وهي تحتفظ بحرارتها، ليغمرنا شعورا بالمحبة والألفة مع الأماكن والشخصيات. 

إن هذا العمل يأتي امتداداً لمخزونه المعرفي وتمكنه من أساليب السرد. لقد استطاع هذا الكاتب من تحقيق نجاح طيب في تأصيل تجربة صادقة خاصة به، لها سماتها العراقية- المصرية المشتركة، بكل عمقها وحرارتها.