النَّصُّ الطّافحُ بلذّةِ التَّشْويق.. كولاج تأويل {وجع مر}

ثقافة 2025/02/09
...

  علي شبيب ورد


لماذا نكتب؟ سؤال يشغلنا دائما، وقد يبدو تقليديا ويتكرر لدينا مع الزمن، لكنه يفرض نفسه علينا، وبالإجابة عنه، نتمكن من تحريض أنفسنا على مواصلة تطوير منجزنا الإبداعي. وبهذه الإجابة نستعين لخلق القدرة على تجديد حيويتنا وجدانيا وذهنيا، لمواجهة ضراوة تضاريس واقعنا المعاش وبكل قساوته. والاجابة المنعشة للمخيّلة المنتجة لمنجزنا، هي تلك التي تؤكد حاجتنا الماسة للشعور بأهميتنا ودورنا الفاعل في هذا العالم. وكذلك نكتب للإجابة عن أسئلة شتى تنبري أمامنا خلال حراكنا اليومي ونحن نواجه الصعاب والأزمات التي تتطلبُ منا موقفا وحلا لها. (إن أحد الدوافع الرئيسية للخلق الفني هو بالتأكيد الحاجة إلى أن نحسّ بأنفسنا أننا أساسيون بالنسبة للعالم).

ودليلنا على ما ذهبنا إليه أعلاه، هو تواصل صلاح زنكنة وسواه من أبناء جيله، على مناهضة راهنهم المعاش، بحسن قراءته وخصوبة تأويله في نصوصهم. وكتابه الماثل لنا الآن "وجعٌ مرٌّ" الصادر عن دار السرد للطباعة والنشر والتوزيع يثيرنا بعتبة العنوان ذي التركيب اللغوي الصادم لمشاعرنا ورؤانا. إذن نحن نتفحّصُ قناعا يستبطن مرارة الوجع في حياة القاص وشخوص نصوصه التي تتبارى في إغوائنا، كي نواصل القراءة والتأويل. ولأنها كسبت وِدَّنا اتصاليا، ها نحن نمتثل لها، وفق مقترحنا "أفق التّوقّع" والذي من خلاله نتمكن من فحص جميع عناصر النص ووظيفتها في تفعيل جمالية التلقي. 

والتجربة الجمالية للمتلقي، ثمثّل خزينه المعرفي وخبرته العملية في فهم وإدراك المنجز الإبداعي، وذلك من خلال اكتسابه لقدرات جديدة، تمكنه من تجاوز أفق توقعه الذي جَبُلَ عليه عبر العادة. وحسب نظرية جمالية التلقي ومن أجل تأويل جديد للنصّ الأدبي يرى هانس روبيرت ياوس، ما يلي: "التجربة الجمالية تظلُّ كذلك، مستودع معانٍ يطوِّقُهُ أفقُ توقّعِ الواقعِ اليوميّ، وهو ما يسمحُ، مع ذلك، للتّجربةِ الجمالية بأن تلبي أو أن تتجاوزَ توقّعاتٍ جمّدَتها العادةُ أو القاعدة، وبأن تنقلها إلى مستوى التَّوَضّحِ، وبأن تثبِّتها أو تُعيدَ النظرَ فيها، عوض أن تمنعَ ذلك على نفسها". 

وبعد قراءتنا لكتاب زنكنة وتشخيصنا لأهم ملامح اشتغال البنى السردية في نصوصه الماثلة، سنعمل إجراءنا الفاحص لتقنيات مشغله، وفق سبعة كولاجات تأويل، يتبعها ملحق رؤيوي. وكما يلي:


بنية الشخصية/ كولاج تأويل أول

الشخصية الرئيسية في نص "سيارة سوداء.. قبّعة بيضاء"، هي شخصية مثقفة حساسة والقاص هو الراوي العليم. والسيارة السوداء، هي شخصية مضادّة تتابعه أينما ذهب، غير أنه اكتشف أن زوجته كانت تطارده بفعل الشك والغيرة. بينما في نص "سأقتل الجنود"، فالشخصية الرئيسية هي الحاج سالار، الذي أعدمت عائلته في سجن نقرة السلمان خلال عمليات الأنفال اللاإنسانية. فصمم على الانتقام من الجنود الأسرى. لكن بعد أن شاهد حالة ذلهم، تغيّرت مشاعره فأشفق عليهم وطالب بإطلاق سراحهم. والقاص في بنية الشخصية عمد إلى كسر أفق التوقع، من خلال التحول المفاجئ في مسار السرد، إذْ ينقلب موقف الشخصية الرئيسية تجاه المجريات، وذلك لحدوث منعطف مؤثر، غائب عن تصور المتلقي.  

بنية الحدث/ كولاج تأويل ثانٍ

الحدث في نص "خطأ غير مقصود"، جرت في أحدى المديريات الأمنية، حيث يلقى القبض على مواطن ويجري تعذيبه، ومن شدة التعذيب يفقد حياته. وهنا قد تبدو حركة السرد عادية، غير أن نهاية السرد تكشف عن أن المواطن الذي مات من التعذيب، ليس هو الشخص المتهم، بسبب تشابه الأسماء. أما حدث نص "حكاية التلميذ الذي بكى"، فقد جرى في إحدى زيارات رئيس النظام الدكتاتوري لإحدى المدارس. ويعمل القاص على متابعة حياة التلميذ، إلى الآن، حيث أصبح شخصا قياديا ما بعد التغيير في عام 2003. والقاص في بنية الحدث اعتمد كذلك على كسر أفق التوقع، عبر إجراء ضربة سردية مدهشة كونها غير متوقعة من قبل المتلقي، وساهمت في اثراء عنصر التشويق.


بنية الزمان/ كولاج تأويل ثالث

بنية الزمان في نص "الخنزير"، تقوم على عرض اللقاء بين شخصية الراوي، وشخصية الخنزير الذي كان سجانه المرعب والمقيت. حيث تعود به الذاكرة إلى كشف جبروته وجوره وقسوته عليه وراء القضبان. ففكّرَ مليا كي يقتصَّ منه، وشعر بالأسف الشديد، لأنه وجده الآن في أرذل العمر، فتركه لينساه. أما بنية الزمان في نص "لا تنسَ ذلك رجاءً"، فتقوم على عودة زوج الشخصية الرئيسية من الأسر بعد خمسة عشر عاما، فتخاطبه عبر مونولوج عميق حول الذكريات وحرمان الفراق، ولسعادتها تنبهه إلى أنها مازالت صغيرة ولم تكبر. والقاص في كلا النصّين وبعد زمن طويل يعرض لنا مشاعر الشخصية الرئيسية مع الشخصية الأخرى التي كانت بينهما علاقة حقدٍ في النص الأول، وحبٍّ في الثاني.


بنية المكان/ كولاج تأويل رابع

بنية المكان في نص "محلّة الوزير"، تقوم على فكرة سكن الوزير في محلة الراوي، وهذا ما أسعد أهل المحلة كونه سيطور المحلة. ولكن مع الزمن، المنظومة الأمنية للوزير حولتها إلى ثكنة عسكرية، فهاجرها الناس مكرهين، وبقيت المحلة لسكن الوزير فقط. أما بنية المكان في نص "لكنها بعيدة"، فهي أن طائرة الراوي هبطت في مطار أثيوبيا. وهذا ما أثار هلع الرّكّاب وأدى إلى مرض بعضهم ومنهم الراوي الذي كان يهذي ويلعن الحرب في أثيوبيا. غير أنه يكتشف في النهاية أن الهبوط جراء خلل فني وليس بسبب الحرب. وعمد القاص هنا إلى السياق التهكمي، في نقد الفوضى والأرباك في الراهن المعاش. وذلك لأنه يقف مع الناس في كلا النصّين، الذين ينقلون من أماكنهم مكرهين، جراء الخراب الذي يسود الحياة.


بنية الحبكة/ كولاج تأويل خامس 

بنية الحبكة في نص "جثث لا تعنينا"، تشكلت باحترافية متقنة، وفق سياقٍ لا معقول، فمخيلة القاص واجهت التلقي بحبكة سيناريو سردٍ سريالي، خلال حركة السرد. فلم نتعرّفْ على جوابٍ مقنعٍ عن سبب وجود الجثث بينهم، فالجميع متهم بجريمة قتلٍ لم يرتكبوها، فيا له من عالمٍ لا يُطاق؟! أما بنية نص "حفنة تراب"، فقد صيغت بعناية تامة سيميائيا ودلاليا، تشي إلى فطنةِ ناصٍّ، ودربة مخيلة، وبلاغة صياغة. فالراوي يستعيد ذكريات طفولته عن مشهد تسفير الكرد الفيليين عنوةً آنذاك، وروعة جوابه لسؤال المعلم عن معنى الوطن. والقاص ترفّعَ كثيرا عن السرد التقليدي، نحو مساربَ غنّاء، خصّبت منظومةَ بثٍّ النص، كانت مدهشة للمتلقي وأغوته صوب نباهة قراءةٍ وحكمة تأويل.


بنية الحلُّ/ كولاج تأويل سادس

بنية حل العقدة السردية في نص "الجنة موحشة جداً"، تبدأ بفكرة الحياة بعد الموت، بقول الراوي: "عندما مُتُّ، اصطفاني الله لجَنَّتِهِ" لينتهي إلى أنه في الجنة يشعر بالوحشة، والحل لديه من عقدة وجوده هو العودة للأرض. بينما بنية الحل في نص "ذو اللحية المباركة"، تبدأ بنتف شعرة من لحية الشيخ المباركة من قبل الراوي أولا، وتبعه آخرون حتى صار وجه الشيخ أملطا ولم يره أحدٌ قط، فقد أزيل قناعه الذي هو مصدر رزقه. والقاص في كلا النصين قدّم لنا سياقا تهكميّا مشاكسا للمألوف والراسخ والمركزي، والحل لدية يكمن في فتح حوار معرفي مع الموروث ليتناسب مع متغيّرات الراهن والمستقبل. وبهذا السياق الغرائبي الصادم كسر أفق التوقع لدى المتلقي، وأغراه للمشاركة البحث عن حلٍّ معضلة وجوده المكتنز بالأزمات والغموض وتناسل الأسئلة.   


بنية التناص/ كولاج تأويل سابع  

بنية التناص في نص "الرّماةُ العشرةُ"، تتشكّل من تعالق السرد مع الفن التشكيلي، فالسارد هو أحد رماة اعدام النقيب بشار عبد الله. يبدأ النص بزيارة لمعرض الفنانة شيرين بشار، ويتفحّصُ لوحة الإعدام بتسعة رماة، فيكتشف أخيرا إنها ابنة الضابط الذي لم يشارك في إعدامه، وسجن حينها. بينما بنية التناص في نص "سيناريو الاغتصاب"، تقوم على التداخل بين السرد والفن السينمائي، بدءا بالعنوان ومن ثم المتن المقطّع إلى لقطات، والسيناريو عن تجارة العبيد الزنوج من إلى أمريكا. والقاص في النصّين يفاجئ المتلقي بضربة سردية لافتة، تربك أفق توقعه، وتدفعه للمشاركة في التفكير في ابتكار نهايات محتملة ممكنة لحركة السرد. وقد نجح القاص في منح المتلقي فرصة التفكير في مجريات عالمِه المعاش لخلقِ عوالم أكثر إنسانية ونفعا وأمنا.


ملحق رؤيوي

بعد إجرائنا الفاحص لأهم ملامح اشتغال البِنى السردية للنصوص، نُعَرِّجُ على الأسلوب أو السياق السردي للقاص في هذا الكتاب. فعلى المستوى السيميائي أجرى تقطيعا قصديا للمتن، ويهدف من هذا التقطيع إلى دحض الرتابة المنتجة للملل خلال التلقّي. وكذلك زيادة مناطق انفتاح النص على المتلقي، لمنحه فرصا متعدّدة للقراءة والتأويل، وهذا ينطبق على المستوى الدلالي. كما أنه ابتعد عن الحشو اللغوي على جسد النص، واعتمد الجمل القصيرة الخالية من الزوائد التي ترهل النص وتقلل من توهجه الاتصالي. لم يعتمد في تراكيبه ومفرداته على البلاغة المعجمية التي تحيط النص بهالة مفتعلة تغطّي الجملة بأسلاك غموض، بل اكتفى ببلاغة البساطة وثرائها الجمالي. أغلب المنظومات الاتصالية للنصوص ارتدَتْ حلَّةً تميّزها عن سواها، لتتبارى فيما بينها لإغراء المتلقي على التواصل القرائي ومن ثمَّ انتاج نصوص ما بعد القراءة. 

وباستطراد عجول بين البنى السردية للنصوص الماثلة، نجد أن القاص عمل بمهارة منتجة أدائيّا، انطلاقا من تطلّعاته للتغيير عبر التجريب المتواصل. فقد عمد إلى كسر أفق التوقّع في بِنيتي الشخصية والحدث. وممارسة لعبة المراوغة في الاقتراب من بنيتي الزمان والمكان، أو بالأحرى خلال التعامل مع الفضاء السردي عموما. ولمسنا براعةً أخّاذةً في ريازة أبنية جسد النص الظاهرة والخفية، فمثل أمامنا النصُّ بحبكة سردية فاتنةٍ، بدتْ لنا كحليةٍ صنعتها أناملُ صائغٍ ورثَ الصّنعةَ من الأسلاف. وفي بنية حل العقد السردية للنصوص، فقد فتح بوابة الحلِّ أمام شتى الاحتمالاتٍ الممكنة لمشاركة المتلقي في حلولٍ متعدِّدَةٍ. وما يتعلَّقُ ببِنية التناص، القائمة على التداخل بين مكونات النص والتداخل مع النصوص الفائتة والمجاورة (الأدبية وغير الأدبية) فكانت اللوحة متداخلةً مع المشهد السردي والمشهد المعاش، وهذا ينطبق أيضا على الصورة في السيناريو.

إن كتابة القاص في هذا الإصدار وفي تجربته عموما، رأيناها كذاته المخلصة لحياته ولمشروعه الخاص به. ومعبِّرةً بصدقٍ ملفتٍ عن أنبل المشاعر الإنسانية، وتخاطب جميع المتلقين، على الرّغمِ من اختلاف مستوياتهم الثقافية. وهذا ما ذهبت إليه الروائية "كيت ريد" بقولها "حين تكون كتابتك كذاتك، متميِّزةً كبصمةِ إبهامك، فإنَّها تتحدَّثُ للجميع". وهو متحكِّمٌ تماما بسياقه السردي، وعارف بكل تفاصيل وأسرار الكتابة الأدبية بكل أجناسها، بفعل الخبرة التي امتلكها عبر الزمن. القاص يمتلك مخيّلةً ذات خصوبة اشتغالٍ، رَسّخَتْ عبرَ الزمن مشروعَه الإبداعي الخاص به. كما أنه لم يتخاذل في توجيه خطابه السردي بجرأة عبر قناعٍ جماليٍّ خادعٍ لعين الرّقيب فيما مضى، ولازال غير هيّابٍ من أساليب الترهيب ووسائل الترغيب. 

ونحن انطلاقا من مشروعنا الرؤيوي "كولاج تأويل" نفخر بمشروعه السردي القصصي المائز، الذي اختمر وبانت خصوصيّتهُ في حزمة من الإصدارات. ولا يسعنا إلّا أن نثَمِّنَ فرادتَهُ وفرادةَ سواه من كتاب السرد، الذين احتفظوا باستقلالية منجزهم الإبداعي، كي يحلِّقَ عاليا، وعابرا للحدود والمتاريس والعتم. لقد مثلتْ أمامنا نصوصٌ لم تفقد أزياءها الفاتنة، بل واجهت التلقي بعروضٍ جماليةٍ جديرةٍ بالتأمّل، لما انطوت عليه من فسحٍ غنّاء منتجة لحسنِ قراءة وتأويل. وبان لنا النصُّ، كطائرٍ نَبِهٍ حَذِرٍ من فخاخ حَرْفِهِ عن مسارِ تطلعاتِ منتجِهِ الجمالية، وعملت دُربَةُ ومهارةُ "النّاصِّ/ السّاردِ" على خلقِ نصٍّ طافحٍ بلذّةِ التشويق.