محمد صابر عبيد
تعود صفة الزهد بمعناها التقليديّ القيميّ إلى جذور ضاربة في عمق التاريخ البشريّ؛ وغالبا ما ترتبط بشخصيات استثنائيّة على مستوى التعامل مع الحياة في أبسط درجات التعبير عن الجوهر الطبيعيّ لفهمها، لذا فقد احتلّ الزهد مكانة مهمة في الشعريّة العربيّة القديمة بوصفه أحد أهم الأغراض الشعريّة المركزيّة، على الرغم من أنّ مفهوم الزهد تطوّر كثيراً وتدخّل إجرائيّاً في السلوك الإنسانيّ على أنحاء كثيرة ومختلفة، وقد يتّسع الحديث حول هذ المفهوم كثيراً؛ لكنّنا نقتصر حديثنا هنا على الفنّان أو الأديب الزاهد بإغراءات الضوء والانتشار والشهرة والظهور والإعلان وما إلى ذلك، فثمّة فنّانون وأدباء مولعون بالضوء إلى درجة المرض أكثر كثيراً ممّا تستوجب الحال، وأعلى كثيراً ممّا يمتلكون من قدرات ومواهب وإضافات حيّة؛ يمكن تقديمها في ساعات التمتّع بحالة الظهور وسط هذا الضوء والتغنّي بها وأسطرتها بطريقة مكشوفة لا تنطلي على جمهور العارفين.
لن يحصد هؤلاء سوى بقايا البرق الذي يتلبّث في أحضانهم بعد انحسار الضوء عنهم؛ أشبه ببقايا رماد من حريقِ أسمالٍ لا قيمة لها في الأصل، لكنّ هذا الولع المريض يمكن أن يوقع أصحابه فيما لا تحمد عقباه من كثرة ترديد أقوالهم تحت ضغط الضوء وإكراهاته، وهم لا يتّعظون من هذا الهوس الذي لا يضيف إلى تجاربهم شيئاً سوى قشور لا تسمن ولا تغني، فالفنان أو الأديب الذي يجتهد في تقديم نفسه إلى المتلقّي بصدق فنيّ متين وأكيد وحيويّ؛ فإنّ ميدان الفن ومساحة الأدب كافية كثيراً لهذه المهمّة الإبداعيّة، وعليه تجويد فنّه ونصّه من أجل الوصول إلى عتبة التلقّي على أكمل وجه؛ لأنّ هذا هو الميدان الحقيقيّ للتعبير عن الذات وتعبئتها بالنور القادر على وضعه في المكان الذي يستحقّه، بلا جلبة ولا ضوضاء ولا تلميع ولا صخب ولا جهد حركيّ يجلب السخرية لا أكثر.
تحتاج مهمّة الوصول إلى عتبة الزهد بثقة وإيمان وحرص عميق وأصيل كثيراً من تربية الروح والجسد، وتمرين الذائقة والمزاج والرؤية والرؤيا على الاكتفاء بالذات، وبما يجدها من ممكنات وقدرات ومواهب على المرء أن يجتهد عميقاً من تقديرها وإدراكها ومعرفتها وتحديدها على وفق معياريّة أكيدة، قائمة على المعرفة والموضوعيّة والدقّة في وضع حدود لها تناسب فعليّة وجودها وأصالة تمثّلها لقدرات الذات، ومن ثمّ الاحتفاء بها وتخليصها من كلّ الزيادات الطارئة والوهميّة التي أضيفت إليها في مناسبات كاذبة، من أجل بلوغ المعرفة الحقيقيّة للذات وما تملك وما يمكن أن تفعل وتنجز، والنظر إليها بعد ذلك بوصفها كنزاً ثريّاً على المرء استثمارها وترك ما عداها تماماً، وقد قيل: (مَنْ تَرَكَ مَلَكَ) في سياق الدعوة إلى تربية النفس على الاكتفاء وكبح جماح الحسد ورصد ما لدى الآخر برغبة زواله، فما تملكه هو لك وأنت قادر على تطويره والإفادة منه؛ على النحو الذي يجلب لك الفرح ويحقّق لك السعادة المناسبة.
ثمّة حدود للمواهب الفنيّة والأدبيّة التي يمتلكها الفنان أو الأديب؛ ولعلّ إدراك حدود هذا الفنّ أو الجنس الأدبيّ من أبرز الأمور وأهمّها وأخطرها في سياق تلمّس طريق الإبداع الحقيقيّ، إذ على الفنان أن يعرف بدقّة وموضوعيّة وقناعة أكيدة وراسخة ومعياريّة حدود موهبته، وأن يقصي بموضوعيّة عالية كلّ ما عداها من أوهام يضيفها الآخرون إليه أو يضيفها هو إلى ذاته، ويتأكد يومياً ممّا يملكه فعلاً ويخصّه فعلاً؛ لتحصين موهبته من الإضافات الكاذبة التي ترهقها وتحمّلها ما ليس منها، بحيث يصل إلى قناعة حاسمة بأنّ هذا الذي له ويمتلكه فعلاً يمثّل شخصيّته الإبداعيّة؛ ويوفّر له الفرح المناسب والمطلوب والضروريّ.
حين يصل المرء إلى هذه الدرجة من الحصانة الخالية من الشوائب والأشنات والزبد؛ فإنّه يتعامل مع ما يملك من موهبة باحتفاء عالٍ داخل حدودها، في عزلٍ تامٍّ عن فضاءات الآخر بما يجعله لا ينتظر شيئاً من خارجه، ولا يعوّل على ما ليس له ولا من حقّه، ولا يقارن نفسه بسواه مهما كان الآخر صغير الموهبة وقد حظي بما لا يستحق، بل عليه أن ينسى تماماً كلّ ما حوله ومَنْ حوله ويستغرق عميقاً فيما يملك، لا يلهث وراء الضوء والإعلام والحصول على الأمجاد الصغيرة والمديح الزائف والفخر الفارغ بالذات ومنجزاتها، ويترك البحث عن التكريم ومضاعفة الثرثرة السقيمة التي ترهق الذات والآخر، والاحتفال بكنوز الصمت وتجويد العمل الممكن على تطوير الموهبة ضمن معايير حقيقيّة موضوعيّة، بوسعها أن تجعل الذات في نظر الذات نفسها مركز العالم الخاص بها، ولا يعنيها الآخر بما يملك وبما يحصل عليه سواءً باستحقاق يناسب موهبته؛ أو من غير استحقاق في ظلّ هيمنة الفساد على مفاصل الحياة المختلفة.
كلّما تمتّع المرء بهدوء كبير وقناعة راسخة بما لديه؛ فإنّه أقرب إلى حالة الزهد التي تجلب له سعادة لا يحصل عليها في أيّ مكان آخر، ذلك الهدوء والراحة الروحية والجسدية وراحة الضمير والرؤية والفضاء والمزاج داخل جوّ هائل من الطمأنينة، وتهذيب فعالية الاكتفاء بأقلّ ما يمكن من الضوء المتحوّل إلى نور يجعل الطريق واضحة وآمنة وساحرة، فكثرة الضوء تعمي العيون وتشوّه ملامح الوجه وتخرّب وداعة الذائقة، وكلّما كان المرء متصالحاً مع نفسه ومع محيطه ومع العالم الذي يتراءى له في الما حول، تحصّل على أكبر قدر من الراحة والمعرفة وقد منح موهبته حقّها في إدراك حدودها وتحصينها بالزهد.
لا شيء في الحياة أيّها الواهم الموهوم يستحق الركض واللهاث والتدافع والقتال والخوض في مياه غير مياهك، من أجل الحصول على مكتسبات لا حقّ لك فيها؛ وهي أصلاً غير ذات قيمة إذا ما تلبّثت قليلاً وأنعمت التفكير فيها، وعليه فاترك ما ليس لك وواصل العناية والبهجة بما لديك وكن زاهداً بالتفاهات وصغائر الأمور، عندها ستجد أنّك موهوب حقاً ومبدع حقاً عندما تضع يدك على حدودك وتغرس فيها بذور المحبة بلا عدد، وتمضي سعيداً تغنّي بصوت يسعد من حولك الأرض وما عليها؛ من غير أن تنتظر بزوغ الأشجار المحمّلة بأنواع الثمر، فما لك سينتهي إلى حضنك بلا مزيد من الصراخ والصراع والحسد والإساءة إلى أنوثة الطبيعة وخطابها الإنسانيّ الماثل فيك قبل كلّ شيء.