الفلسفة فاعلية تأملية

ثقافة 2025/02/10
...

  حازم رعد


اقترن فعل التأمل بالفلسفة على امتداد تاريخها الطويل، وفي مختلف تحولاتها فأينما تم التعرض للفلسفة كان التأمل الخاصية الأبرز في تعريفها.

وإذ يأخذ التأمل أشكالاً مختلفة، فذلك نظراً لتنوع الأشياء المتأمل فيها "العالم، معنى الوجود، الإنسان، وعموم أشياء العالم" وكذلك تبعاً لزوايا منظورات المتأمل "الشخص من زاوية ذاتيته" فأحياناً يأخذ التأمل معنى ذاتياً بأن يداول الإنسان فكرة من الأفكار ما، مع ذاته وينضج تلك الفكرة ويحملها على الواقع فيكون ما هو عقلي "متأمل" واقعي، وهنا يحمل الشخص وعيه الشخصي على الواقع الموضوعي، وتجربة الوعي هنا تكون ذاتية نابعة من بُنيات أفكار الإنسان دونما تدخل من الخارج.


وأحياناً يأخذ التأمل دلالة خارجية بمعنى أن يتأمل الإنسان في منظورات وأشياء الواقع، فيقع نظره عليها بما هي تجربة يباشرها، فينتج عن ذلك وعي وتجربة مشتركة بين الإنسان من جهة، وأشياء الواقع من جهة أخرى، وهنا يكون ما هو واقعي عقلي، ثم يعبر عنه بلغة الأفكار والقوالب اللفظية.

وفي كلا التجربتين الذاتية والموضوعية تنتج أفكار الإنسان، ويظهر وعيا جديدا يثري أوعية المعرفة "مثل ماء يجري في الوديان بقدر طاقتها الاستيعابية وقابليتها على تفريغه" وما أن يستمر هذا الحال حتى تبدأ دورة جديدة من الصراع بين الفكرة والأخرى، والمركب منهما لإنتاج فكرة جديدة بحسب الرؤية الديالكتيكية الهيغلية لنشوء وارتقاء الفكر.

وهذا ما عنيته بأنها قد تأخذ دلالة خارجية، فقد يستبطن التأمل الملاحظة "متابعة الأشياء بطريقة مباشرة" والملاحظة نحو من التجربة تستلزم المشاهدات والمراقبة والتتبع وهي ممارسة لها جذورها في التاريخ فمنها ما صنعه بروتاغوراس، حينما سمع عن سقوط نيرك فذهب اليه يتأمله "يلاحظه" وهذه طريقة علمية من المشاهدات. 

وقد خلص حينها إلى نتيجة بأن الشمس ليست الهاً، بل هي حجر كسائر الكواكب. 

وكانت هذه الحادثة السبب وراء مأساته، حيث اتهم بالتعدي على آلهة اليونان والالحاد بها، وأريد اعدامه لولا وقوف صديقه بركليس إلى جانبه وتخليصه من الادانة، والمحصلة أن التأمل ليس طريقة سطحية في عمليات التفكر والتتبع، وإنما هي ممارسة عقلية يتخللها التجربة والملاحظة والتتبع والنتائج التي تخلص عنها جيدة ونسبتها من اليقين ممتازة وصائبة.

والإنسان كما يفكر يعيش، وبالتأكيد أن ممارساته وردود الأفعال التي تصدر عنه هي بالأساس استجابة لتحدٍ موضوعي، ولازم ذلك أن تكون الأفكار مترتبة على مقدمات سليمة وقراءة واعية ومتأنية للواقع وغير متسرعة أو يكون السلوك مستعجلا ويستبق الفكر بحيث سرعان ما يقع الفرد في الخطأ. 

وحري بنا عدم الشك بأن في الفلسفة رؤية حقيقية عن الحياة وطريقة للعيش ومنهج للممارسة، وأن الفلسفة تعلمنا ألا نذعن أو نسلم للأفكار والمسبقات والقضايا بشكل مطلق من دون فحص وتمحيص وطرح الشكوك عليها، ومن دون مراجعتها 

ونقدها. 

فالفلسفة منهج عقلي متمرد على السائد والمألوف، منهج يقاوم البلاهة والحمق بأي شكل جاءت أو كانت، ومن البلاهة الإذعان والتسليم للأفكار والأمور من دون فهم وتيقن بعد أن تفهم.

وهذا هو جوهر الفلسفة وصميم عملها أن تعلمنا كيف نفكر فيما هو ممكن من طرق وأساليب ناجعة لممارسة الواقع وتحقيق الفعل على أحسن ما يكون من الوان التطبيقات "وهذا هو السبب الذي يجعل مجموع الأفكار الفلسفية شيئاً أكبر من أن يكون مجرد دراسة اختصاصي، أنه يشكل نوع مدنيتنا بأسره" كما يقول وايتهيد، فإن مدنيتنا وملاك تحضرنا رهين بنوع الفلسفة التي نختارها ونأخذ بها ونقيم على ضوئها أفعالنا. 

إذن فالتأمل في جوهره قراءة عميقة للواقع في مشكلاته ومعضلاته ومتطلباته واحتياجاته، ومن ثم تأمل الحلول الأنسب لذلك الواقع فليس التأمل تفكيراً ساذجاً كما قد يتصوره البعض. 

إن النظر في أية مشكلة ومحاولة الكشف عن نوع المسبب الذي اوجدها واستكناه البيئة الفعالة التي نشأت ونضجت فيها، 

حتى برزت كمشكلة ثم التأمل أيضاً هو النظر في المعلومات المتوفرة للإنسان والمقارنة بينها وبين نوع المشكلة، وقد يدخل التجريب كجزء من عملية حل المشكلات، فالمقارنة والبحث تستلزم تجريب الحلول المناسبة، وهنا يتعاون ويأتلف التأمل مع التجربة، وهذه واحدة من المحطات التي يتخادم العلم فيها مع التفلسف، إذ "إن التأمل والمعرفة جديران بأن يسعى اليهما الإنسان، إذ بغيرهما يستحيل على المرء أن يحيا الحياة التي تليق بإنسانيته"، كما يقول أرسطو طاليس.