عندما يكون النقد بروح الشعر

ثقافة 2025/02/10
...

  سلام مكي


وهو على مشارف التسعين من عمره، يسعى الشاعر فاضل العزاوي الى الاستقواء بالزمن، عبر تفتيت الصور النمطية، التي رسختها الدراسات الأخيرة عن الجيل الأشهر والأهم في مسار الشعرية العراقية الحديثة، والذي ساهم العزاوي بوضع لبناتها الأولى، واستمر الى هذا اليوم، بالبناء الجمالي من جهة، والهدم التدريجي للقبح الذي طغى على المشهد الثقافي والأدبي من جهة أخرى.

آخر ما صدر لفاضل العزاوي عن دار الجمل كتاب " المؤتلف والمختلف" من قصيدة الشعر الى قصيدة النثر.. رؤيا نقدية، يعالج فيه قضية قديمة/ جديدة، يأمل العزاوي وهو الشيخ والأب لقصيدة النثر، أن تترك أقدامه الكبيرة آثارها على تربة هذا الميدان الفسيح، رغم كثرة الأقدام التي مرت عليها سابقا، هو يكتب النقد، بنفس شعري عميق، كان نتاج التراكمات النظرية والتطبيقية، له، وأعني بالنظرية، قراءاته للتراث والدراسات الحديثة، أما التطبيقية، كتاباته الشعرية التي أسست لمرحلة جديدة في الشعر العراقي الحديث. يكتب العزاوي، بلغة العارف بكل شيء، سطور تخبئ تحتها كتبا ومقالات لا عد لها ولا حصر، حين يكتب، يضع أمرين نصب عينيه، أولهما: القارئ المختص، وهو الذي يدرك ويعلم ما يقرأ، وهذا النوع من القراء، بكل الأحوال، يحتاج الى أن يستعيد ما قرأ مجددا، بعد قراءته لكتابات العزاوي، حتى يهضم الفكرة جيدا. الثاني: هو القارئ الناشئ، الذي لا يملك خلفية تؤهله للسير الى النهاية في الطريق الذي رسمه العزاوي، وهنا أمام هذا القارئ خياران، أما يضطر الى العودة الى المنابع الأولى للفكرة، أو يقرأ دون إدراك! الكتاب يندرج ضمن خانة الدراسات النقدية عن قصيدة النثر، لكن الكتابة النقدية التي يكتبها الشاعر، تختلف كليا عن تلك التي يكتبها الناقد، فالشاعر أولى من غيره بنقد الشعر، وهو الذي ملأ قلبه بالشعر، حتى تحول ماؤه الى قطرات مطر. 

يقول العزاوي في مقدمة الكتاب والتي اسماها بالكتابة الجديدة: ليس لأول مرة ولكن بضجيج أكثر أثيرت في منتصف ستينيات القرن الماضي فكرة الكتابة الجديدة.. في هذا السطر، يفجر العزاوي الكثير من الأفكار والقضايا النقدية، التي لا يدركها إلا من له خبرة نقدية، وصاحب خلفية نقدية. فقوله: ليس لأول مرة، تحيلنا الى المحاولات الأولى للتمرد على النسق الكتابي القديم في الشعر وأعني به الكتابة على وفق متطلبات الخليل بن أحمد الفراهيدي، فالتمرد الذي أعلنه العزاوي ورفاقه في بداية العقد الستيني من القرن الماضي، لم يكن الأول، بل سبقه محاولات جادة، ورصينة، لم يكتب لها الاستمرار أو التحول الى ظاهرة شعرية، مستمرة، إذ سرعان ما خبأ لهيبها بسبب رياح الكتابة العمودية، التي كانت مهيمنة على الحياة الثقافية والسياسية والأدبية آنذاك. ولعل الدكتور أحمد مطلوب، قد أشار بصورة موجزة الى تلك الموجة التي ظهرت بدايات القرن الماضي في كتابه " في الشعر العربي الحديث"، عندما نقل قصيدة للشاعر الرصافي، متحررة من الوزن والقافية، سماها بالشعر المنثور، كتبها الرصافي كما يقول د. المطلوب تقريظا لكتاب "الشيطان" لمراد ميخائيل، أحد رواد تلك الموجة، ومما جاء في القصيدة:

(كتاب كريم

من شيطان غير رجيم

من إنسان في صورة إنسان 

من إنسان هو شيطان 

من شيطان ليس من الجان 

ينقش صورة القين في ألواح الشك

ويزج في مهاوي الشك

بألواح اليقين

تراه ساخطا على الدين وهو به راض

ومحتقرا للعقل وهو به قاض).

إضافة لما ذكره الشاعر شاكر لعيبي في كتابه "رواد قصيدة النثر" محاولة في التأصيل، الصادر عن دار ميزوبوتاميا. فتلك الموجة، لم تحدث ضجيجا يكفي، ليبقى صداها مترددا داخل جدران الوعي الشعري والنقدي في تلك الفترة. أما الفتح الشعري الذي تم على يد العزاوي ورفاقه فما زال ضجيجه، يملأ إرجاء الحياة الأدبية لغاية الآن. أما مفهوم الكتابة الجديدة التي ذكرها العزاوي، فتشير الى أن تلك الموجة، سعت الى تفتيت السواحل التي بقيت صامدة مئات السنين بوجه مويجات متقطعة هنا وهناك، مع ما كانت توضع لها من سواتر نقدية وشعرية من قبل حماتها الشعراء والنقاد. فلم يسمِ الموجة الجديدة بالشعر الجديد، بل سماها الكتابة الجديدة، وهي تسمية لها دلالة نقدية واضحة، تتمثل بأن مفهوم الكتابة، أوسع وأشمل من مفهوم الشعر. فالكتابة كما يقول تحرر الكاتب والقارئ معا، وهو بدوره كان يسعى لتحرير نفسه وتحرير قرائه من قيود الماضي، وأوهام السلف، كان يحلم بكتابة حقيقية، تتدفق من المنابع الأولى للشاعر، لا يجعلها عذبة سوى امتزاجها بروح الشاعر، وأحاسيسه التي تتفجر، كلما مرت بها مياه الشعر، لتخرج بهيأة كتابة مؤطرة بألفاظ غاية في السمك، ومن شدة عمقها، لا تسمح لأي كائن بالسباحة فيها، إلا وهو على قدر كاف من القدرة على السباحة. 

ويعترف العزاوي أن الكتابة الجديدة، اتخذت كذريعة لإنتاج الكثير من الأعمال الهابطة، بسبب عدم وعي كتابها أنفسهم، لما تعنيه هذه الكتابة بموقفها الفلسفي والجمالي والسياسي الجديد من العالم. نعم، لقد استثمر الكثير من عديمي الموهبة الحرية التي أتاحتها الكتابة الجديدة، لتدوين نصوص، تخلو تماما من أي فسحة جمالية، يمكن معها إدراج تلك النصوص تحت خانة الكتابة الجديدة التي يبشر بها العزاوي. فما انتج من نصوص هابطة، فنيا وجماليا لا عد له ولا حصر، ولعل السبب الرئيس، يكمن في عدم الجرأة على استحداث قواعد جديدة صارمة لتلك الكتابة، لأنها بطبيعتها وجدت لتكون ضد القواعد أصلا، لقد كانت ردة فعل على القواعد والأغلال التي وضعها الأسلاف بعنق الشعراء، وطلبوا منهم أن يتوارثونها جيلا بعد جيل، فكانت الفكرة أصلا، هي قطع تلك الأغلال، ونقلها من عنق الشاعر الى متحف الشعر، لتكون مجرد ديكورات ينشغل بها الباحث في تاريخ الشعر ومراحل تطوره، لكن ثمن هذا الفعل، هو الفوضى والتمادي غير المبرر من قبل الكثير من الكتاب، في ولوج منطقة، تكاد أن تكون محظورة إلا على من يملك عذوبة ورصانة في الفكر والتفكير، وانتقاء الأسلوب والعبارات التي تليق بالكتابة أن تكون شعرا! فاضل العزاوي، في هذا الكتاب، يسعى لمعالجة الإشكالية التي ما زالت تمثل مأزقا حقيقيا للشعراء والنقاد على حد سواء، وهي التفريق بين حسن الشعر وسيئه، دون وضع قيود وأغلال بعنق الشاعر! الكتاب الذي لم يتجاوز الـ 100 صفحة، كان خلاصة تجربة شعرية ونقدية، ثرية، مثّلت صورة ناصعة وأنموذجا معتبرا للمثقف الملتزم، والشاعر المتفرد في أسلوبه وعباراته التي أسست لخطاب نقدي مغاير، وصورة من صور الالتزام بالقضية التي يؤمن بها الشاعر/ الناقد.