عدنان حسين أحمد
ينتمي فيلم "جدارية المطر" للمخرجة إيمان خضر إلى صنف الدكيودراما الذي يجمع بين الدراما والوثيقة في آن واحد. وهو نمط فني يسعى إلى الالتزام بالحقائق التاريخية المعروفة. وقبل الخوض في تفاصيل هذا الفيلم الناجح الذي يهز المتلقي ويحرّك مشاعره الداخلية لا بد من الإشارة إلى براعة السيناريو الذي كتبته المخرجة نفسها وصاغت قصته السينمائية بطريقة فنية لا تخفى على المتلقي سواء كان إنسانا بسيطا أو مثقفا ثقافة عميقة وواسعة.
فجوهر القصة السينمائية في هذا الفيلم يعتمد على عنصر الترقب والمفاجأة والإدهاش. فالفنان وهو الراوية نفسه سوف يرسم صورة الرئيس فعليًا ويُتقنها بالتمام والكمال، ولكن حينما يهطل المطر ويكتسح الألوان المائية المؤقتة تتكشّف الفظائع التي ارتكبها أزلام صدام حسين وأدوات نظامه القمعي في ضربة فنية ذكية لا تخطر إلّا على بال الكُتّاب المبدعين الذين احترفوا الكتابة الخلّاقة التي تضرب في صميم المتلقي وتضعه في دائرة الدهشة والانبهار. وسنؤجل الحديث عن هذه الضربة الفنية التي سوف تبقى عالقة في ذاكرة المتلقين إلى أجل غير مُسمى.
تقدم لنا المخرجة في توطئة الفيلم معطيات كثيرة تعود بنا إلى عام 1983 عندما قرّر صدام أن يكون عيد ميلاده احتفالًا رسميًا وشعبيًا في داخل البلاد وفي السفارات العراقية في الخارج. فتحولت غالبية مراسم الفنانين إلى ورش عمل وبضمنها مرسم الكائن السردي الذي يروي لنا الأحداث الغريبة والعجيبة في بلاد ما بين النهرين. وبينما كان الجوع ينهش في بطون الفقراء من عامة الناس كان صدام يركب عربة ذهبية وثيرة تجرها أحصنة بيضاء.
لا غرو في أن يضع الطاغية صوره في التقاويم السنوية والساعات والطوابع الرسمية وصحف البلاد ومجلاتها. وخصصت الدولة حُراسًا يراقبون كل من يحاول تشويه هذه الصور والجداريات أو العبث بها، حيث يصل الأمر إلى الإعدام كما لاحظنا في الوثائق التي أدرجتها المخرجة في مستهل الفيلم، حيث تمّ تنفيذ حكم الإعدام بكل من أحمد حميد محمد الخزعلي ومحمد علي فاضل الربيعي وهما من سكنة ناحية "أبي صيدا" التابعة لمحافظة ديالى حيث أُعدما في مكان الجدارية المتضررة نفسها وسُجن صلاح الدين حسين اسماعيل الذي ضرب الجدارية بالأحجار.
لم يعرف الراوية سبب اعتقاله في بداية شهر شباط من عام 1990 وكان يظن أن اعتقال أخيه وفقدان أثره هو السبب الرئيس في زجه وراء قضبان السجن الذي يغصُّ بأناس من مختلف الانتماءات والطوائف العراقية الذين اعتقلوا بسبب تُهم زائفة وسيعرف لأول مرة أن سبب اعتقاله هو أنه نسي أن يلوّن أُذن الرئيس اليسرى في إحدى صوره وهي تهمة كافية، لأن تقوده إلى منصة الإعدام. وتوصل السيناريست إلى حقيقة واحدة مفادها أن صدّامًا كان عادلًا في توزيع ظلمه على الشعب العراقي.
يشترك الراوية في الإضراب الذي يطالب فيه المعتقلون بعودة الزيارات العائلية وتحسين الطعام لكنه هو وحده الذي يطالب بإدخال الألوان وفُرش الرسم، الأمر الذي يلفت انتباه مدير السجن ويأمر بإحضاره فورًا وبعد لقاء طويل لا يخلو من التعاطف مع فنان مهذّب لم تُسجّل عليه أية ملحوظة سلبية يوافق على رسم صورة لمدير السجن ولأفراد أسرته. كما يقترح عليه رسم صورة للسيد الرئيس لمناسبة أعياد الحزب والثورة عسى أن يراها مسؤول كبير ينقل الخبر إلى القيادة التي قد تقرر إخلاء سبيله.
وبما أن فن الرسم ذو طبيعة مزدوجة يجمع بين الملكة والغانية، والزريبة المظلمة والشارع الغارق بالشمس، فقد قرر الراوية أن يجمع بين الدكتاتور والضحية، والألوان المائية مع الزيتية. وفي الأول من آذار عام 1991 انتهى الفنان من رسم صورة صدام حسين وتمّ تعليقها على بوابة السجن وقد تبيّن أن الفنان قد رسم أجسادًا عارية محطّمة، وعيونًا فزعة غائرة، وأيادٍ يائسة تحاول أن تتفادى ضربات الجلادين الموجعة. لقد رسم الفنان صورة الرئيس بالألوان المائية المؤقتة بينما أخفى تحتها صور الضحايا المرسومة بالألوان الزيتية الثابتة. ومع هطول المطر تلاشت صورة الجلاد وظهرت إلى العيان صور الضحايا المعذبين كوثيقة تُدينهم إلى الأبد.
ثمة إشارة مكتوبة في نهاية الفيلم إلى الفنان سمير عبد الستار (1950)، صاحب جدارية المطر، الذي لا يزال يعيش في منفاه، ويمارس الرسم، ويشارك في المعارض الفنية متجاوزاً آلامه الجسدية والروحية.
أنجزت المخرجة إيمان خضر عشرة أفلام حتى الآن من بينها "الملك فيصل الأول"، "ظل الكونكريت"، "مقاهي بغداد الأدبية"، "عاملات الطابوق"، و"جواد سليم وسمفونية
البرونز".