محنة الرسائل الفنيَّة

ثقافة 2025/02/13
...

 د. نصير جابر


يتمنّى الكثير من الكتاب والشعراء في لحظات الحبّ الجارفة، أن يكونوا تشكيليين  ليرسموا وجه المحبوبة الذي لا يمكن وصفه ولا رسمه من خلال اللغة، فهو عصيّ  على التعليب داخل الجمل والكنايات والاستعارات! أو هكذا يقولون لحبيباتهم متحسرين. وكأنّ التعبير من خلال اللغة قاصر أو غير مجدٍ. من هنا لا حلّ إلاّ بالرسم. لأنّ الاكتمال الذي يشعر به العاشق غير متوفر في الفن الذي يتقنه، لذا يفترض إنه لو اتقن فناً آخر، لتمكن - ربّما- أن يعبّر عن هذه اللحظة الحرجة، لحظة النضوب وعدم القدرة على التعبير عن الحب، تلك المشاعر الجياشة التي تأسره ويتمنى أن يجسدها بكل دقّة!

وهذه التفصيلية الدقيقة التي تتكرّر كثيراً في محاورات الشعراء أو من خلال السرد الذي يصف تلك اللحظة القلقة، سنجدها أيضا عند الرسامين، فهم يتمنون لو كانوا كتّابا، أو شعراء لأنّ الرسم وحده لن يستطيع أن يلخّص ما في قلوبهم من حراك وتفاعل ومشاعر، وعلى الرغم من أن الأمر هذا به من مبالغات العشاق وشطحاتهم الشيء الكثير، ولكنني أجده أمر يدعو للتأمل العميق، فالرسم فن مرئي يتيح لنا أن نرى ونتأكد ممّا نراه، وحاسة البصر هي الفيصل في تكوين الانطباعات، أما الأدب القولي  فهو مجرّد إشاعة، قد تصدقها المعشوقة أو لا! 

ويبدو أن فان كوخ الرسام الهولندي (1853-1890) لم يكن يثق لا بالرسم ولا بالشعر، ففي لحظة حبّ محتدمة، قطع أذنه وبعثها في ظرف إلى حبيبته، لأنّ الفن خذله، فهو لا يمتلك إلاّ جسده الذي يراه جديراً بأن يكون علامة على حبّ أبدي وأزلي. وهذا التصرف المتطرف جدا والغرائبي وأن سوغ تأريخيا بالحالة النفسية التي كان يعاني منها (كوخ) فأنه يقول لنا بطريقة ما، إن اللحظات العصيّة، حينما يفقد المرء  توازنه ولغته، سيلجأ تحت ضغط الحب إلى هذا الحيز الغريب!

أما بيكاسو (1881 - 1973) فقد عرف الحبّ مرارا وعاشه بتفاصيله الحياتية كلّها، ووثّق لمحبوباته الكثر داخل لوحات معروفة ومحدّدة، لأنّه كان يرى أن إدخال المرأة التي يحبها إلى حيز اللوحة، هو تكريم ما بعده تكريم، تحلم به أي امرأة في العالم،  وهو بهذه النرجسية العالية، خطى نحو مفهوم آخر للتعبير عن محبته لهنّ، هو يرسم فقط، وعليهن التصديق بحبّه، ومن ثمّ تحمل طباعه الصعبة ونزواته الكثيرة ومزاجه المراوغ التي لا يطاق أحيانا.  

في حين وجدت الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو (1907-1947) في الحب الجارف، المتناقض مع الرسام دييغو ريفيرا الذي يكبرها بعشرين عاما، وجدت به مادة حيّة جدا عبّرت من خلالها عن مشاعر متناقضة، متطرفة، بخاصة بعد الحادث الذي  أصاب جسدها بالعطب ممّا جعلها حبيسة الفراش لفترات طويلة.

لذلك كان الحبّ هو الكلمة السحريّة التي جعلتها تواصل الرسم، وكأنها تكافح  لتواصل الحياة. ومن يتأمل أعمالها، سيجد بحثا خاصاً عن لغة أخرى، لغة سريالية عالية، تجيد شحذ الأذهان وهي تتمعن فيها للخروج بمواقف جديدة نحو ما ألفناه في الحياة.

 أما التشكيلي العراقي فاخر محمد فيعبّر عن الحبّ بطريقة أخرى، أكثر كونية،   فالموجودات كلها داخل لوحاته التي تشتغل على الطبيعة ورموزها تسير بنهج حبّ  منتظم، الزهرة والشجرة والقمر والفراشات، تدور معا متموسقة لتقول جملة لونية بليغة، إننا لابدّ من أن نعشق ونقع في الحب، لأنه من دونه سيكون لون الحياة كالح.  

إن التشكيل فن له وشائج متينة مع الحبّ، لأنّ اللوحة لحظة تجل واندهاش وانفعال،  بها يعاد المعنى الفكري والذهني بطريقة اللون والخطوط، يتجسد الولع والشغف والتوق، ليكوّن رسالة ساخنة تصل إلى عين المحبوب فتجعله يقرأ ما بين الألوان  بطريقة واضحة وسهلة مهما كانت اللوحة معقدة 

أو مغلقة.