ناجي الغزي
لم تكن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) مجرد مؤسسة خيرية تقدم المساعدات للدول النامية، بل كانت على الدوام جزءاً من استراتيجية أوسع تهدف إلى توسيع النفوذ الأميركي وترسيخ القيم الاقتصادية والسياسية التي تخدم مصالح واشنطن. فمنذ إنشائها في عام 1961، أصبحت إحدى الأدوات الأساسية لنشر العولمة وتعزيز النموذج الأميركي للحكم والاقتصاد في مختلف أنحاء العالم.
على مدار العقود، حظيت الوكالة بتمويل ضخم، إذ خُصص لها ما يقارب 1 بالمئة من الميزانية الفيدرالية الأميركية، أي ما يعادل 50 مليار دولار سنوياً، وهو مبلغ ضخم يعكس أهميتها في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. لكن، وبالإضافة إلى هذا التمويل المباشر، هناك قنوات دعم أخرى عبر مؤسسات دولية وشبكات مالية متداخلة، ما يجعل الرقم الحقيقي لإنفاق واشنطن على هذه الأداة يتجاوز بكثير الرقم المعلن. ومع تنامي الانتقادات، بات يُنظر إلى USAID ليس فقط كجهة مانحة للمساعدات، بل كواجهة لأدوار أكثر تعقيداً، حيث تم استخدامها كغطاء لعمليات أخرى، أبرزها الأنشطة الاستخباراتية المرتبطة بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA). فقد أظهرت تقارير عديدة أن الوكالة كانت بمثابة نقطة ارتكاز لنشر الأفكار العولمية والتأثير على السياسات الداخلية للبلدان المستهدفة، سواء عبر دعم جماعات معينة أو التلاعب في المشهد السياسي والاقتصادي. تبدو أهداف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID على الورق أهداف إنسانية وتنموية، حيث تركز برامجها على مجالات مثل الصحة، التعليم، حقوق الإنسان، ودعم الديمقراطية. لكن على أرض الواقع، يختلف الأمر تماماً، إذ غالباً ما تُستخدم هذه البرامج كوسيلة لتوجيه مسارات الدول المستفيدة وفق المصالح الأميركية. في العديد من الدول، اشترطت USAID تنفيذ سياسات اقتصادية تتماشى مع توجهات الليبرالية الجديدة، مما عزز الشركات متعددة الجنسيات على حساب الاقتصادات المحلية. دعمت الوكالة منظمات غير حكومية وصحفيين ونشطاء سياسيين لعبوا أدواراً في تغيير الأنظمة أو الضغط على الحكومات لتبني إصلاحات تخدم أجندات واشنطن. وفي مناطق النزاعات، ارتبطت مشاريع الوكالة بمخططات أمنية ودبلوماسية أوسع، ما جعلها أداة مزدوجة بين التنمية والتأثير السياسي العميق. لم يكن دور USAID محصوراً في التنمية، بل عملت كغطاء مثالي لأنشطة استخباراتية معقدة، حيث كانت معظم مكاتبها حول العالم بمثابة نقاط نفوذ لوكالة CIA. وبحكم طبيعة عملها، استطاعت الوكالة الوصول إلى معلومات حساسة، وتكوين شبكات نفوذ محلية، ما أتاح للولايات المتحدة القدرة على إعادة توجيه الأحداث السياسية في كثير من الدول دون الحاجة إلى التدخل العسكري المباشر. ففي أميركا اللاتينية، استُخدمت مشاريع USAID لدعم تحركات سياسية معارضة لحكومات يسارية لم تكن تتماشى مع المصالح الأميركية. وفي الشرق الأوسط، ارتبطت بعض البرامج بجهود إعادة هيكلة الأنظمة السياسية عبر دعم قوى معينة تحت مسمى "تعزيز الديمقراطية". وفي آسيا وأفريقيا، تم استغلال برامج التنمية لإنشاء بنية تحتية تتيح لواشنطن التأثير على قرارات الدول المستهدفة. هذا التكامل العميق بين USAID وCIA جعل الوكالة أكثر من مجرد منظمة إنسانية، بل أداة متكاملة للسيطرة الناعمة. وفي تحول صادم، كشف تقرير وزارة DOGE برئاسة إيلون ماسك، والذي تم نشر جزء منه خلال جلسة استماع في الكونغرس، أن USAID كانت ترسل سنويًا ما يقارب 700 مليون دولار إلى تنظيمات إرهابية مثل داعش، بوكو حرام، القاعدة، وطالبان، وصولًا إلى زعيم القاعدة السابق أسامة بن لادن. هذه المعلومات زادت من الشكوك حول الدور الحقيقي للوكالة وجعلت التساؤلات أكثر إلحاحًا حول مدى تداخل أنشطتها مع المخططات الاستخباراتية العالمية. في السنوات الأخيرة، تصاعدت الدعوات داخل الولايات المتحدة لإعادة تقييم دور USAID، خاصة في ظل تصاعد التحديات الداخلية، من ارتفاع الدين العام إلى الاستقطاب السياسي الحاد. ويبرز هنا تساؤل مهم: هل تسعى واشنطن لتقليص نفوذها العالمي عبر تقليص دور USAID، أم أن هناك تحولًا تكتيكيًا في طريقة بسط النفوذ؟ هناك سيناريوهات محتملة لمستقبل الوكالة منها: إعادة الهيكلة بدلاً من التفكيك: يمكن أن تبقى الوكالة قائمة، ولكن مع تعديلات تقلل من دورها السياسي المباشر، وتجعلها أكثر تركيزاً على القضايا التنموية الفعلية. وتحويل مهامها إلى مؤسسات دولية: قد يتم توزيع بعض مسؤولياتها على الأمم المتحدة أو منظمات إقليمية، ما يجعل الدور الأميركي أقل وضوحاً لكنه يظل مؤثراً من الخلف. والاعتماد على وسائل بديلة للنفوذ: قد تفضل واشنطن تعزيز أدوات أخرى مثل الشركات الكبرى، الإعلام، والتكنولوجيا لنشر الأيديولوجيات والقيم الأميركية بدلاً من الاعتماد المباشر على المساعدات. إذا تم تقليص أو تفكيك USAID، فإن ذلك لن يعني انسحاباً كاملاً للولايات المتحدة من الساحة الدولية، بل ربما يكون مؤشراً على تحول في أدوات النفوذ. في ظل صعود الصين بمبادرة "الحزام والطريق"، وعودة روسيا إلى المشهد الجيوسياسي، قد تسعى واشنطن إلى أساليب أكثر مرونة وذكاءً للحفاظ على دورها العالمي. لكن في المقابل، فإن أي تراجع في دور USAID قد يفتح المجال لقوى أخرى لملئ الفراغ، ما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل النظام العالمي بطرق غير متوقعة. فهل نحن أمام بداية مرحلة جديدة من النفوذ الأميركي، أم أن العالم يتجه نحو تعددية قطبية حيث لم تعد واشنطن تحتكر أدوات القوة الناعمة؟
التاريخ وحده سيكشف لنا الإجابة.
كاتب سياسي