صراع البداوة / الحضارة بين علي الوردي وفالح عبد الجبار

آراء 2019/07/09
...

ياسر جاسم قاسم 
لقد أعاد الدكتور علي الوردي للقاعدة الخلدونية بعضاً من حضورها الواعي في الحاضر، ومن هنا فقد انطلق الدكتور فالح عبد الجبار من قراءته للوردي من خلال مقاربات ومباعدات كما أسماها في سوسيولوجيا الماضي والحاضر ونقاط تقاطعهما.
إنَّ الوردي يتبنى في مقاربته المجتمع العراقي (نقطة انطلاق خلدونية) كما يسميها عبد الجبار صراع البداوة والحضارة إنما هو صراع يمتد عند الوردي في الماضي الى أقصاه، فالصحراء حسب الدكتور الوردي “تنتج البداوة، والبقاع الخصيبة تنتج الحضارة، وهما في صراع متصل منذ أن ظهرا للوجود” (علي الوردي، لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث، ج1، 
ص298).
ويقف فالح عبد الجبار عند هذه الرؤية معتبراً أنَّ دورة الصراع الخلدوني المستديمة تنفتح عند الوردي على هيمنة أحادية، سيادة روح البداوة وانتقالها الى المدينة، بتعبيرٍ آخر: إنَّ الدورة الخلدونية دورة مغلقة ومحددة الآفاق والآماد.
إذ تبتدأ هذه الدورة كما يشير عبد الجبار باستيلاء الجماعة البدوية المتلاحمة بأشكال الولاء القرابي (العصبية) على الملك (المدينة او الحاضرة) وهنا يقول الدكتور فالح: “لا تملك المدينة رداً لهذا الاختراق، من قطبها المضاد بالعنف، فالسلاح، والشجاعة والتماسك، عناصر لا تنتمي اليها بحكم استقرارها وأسلوب معاشها بالذات، لكنَّ المدينة تنتصرُ على البدوي بأنْ تزيل عنه صبغته البدوية وتجعله واحداً منها، وبذا تزيل عنه مكامن قوته انها تستخدم سلاحها الخفي: الثروة، نعيم العيش، وبازالة أنياب العصبية، تنزل المدينة عقابها بالبدوي وتفتح طريق دماره كحاكم، وتبدأ دورة جديدة، في هذه العلاقة تبدو المدينة أضعف من غريمتها البادية، في تنظيم العنف، ولكنها أقوى في تنظيم إنتاج الثروة والرفاه ويحارب كل طرف بأدواته المتاحة” (فالح عبد الجبار، في الأحوال والأهوال عن المنابع الثقافية والاجتماعية للعنف، كتاب في جريدة، العدد 8 / 8 / تشرين1 / 2007).
وهنا فإنَّ الدكتور الوردي يأتي الى لمس مشكلة البداوة، ومفهومه لتضاد، البداوة/ الحضارة، لا يشبه التقابل القطبي الخلدوني بل هو عكسه تماماً، “إنَّ البداوة عند الوردي هي نظم قيم وأشكال تنظيم تطغى على المجتمع وتنتقل الى المدن، لا لتنحل فيها بل لتدوم في صورة، ثأر، غزو، دخالة، غسل عار، الانغلاق في عصبية محلية (مدينة، طائفة، محلة) إنَّ الوردي هنا يعيد إنتاج صراع البداوة /  الحضارة الخلدوني بصورة تناشز اجتماعي بين حضارة حديثة وأخرى تقليديَّة، لكن هذا التناشز لم يعد حسب رأيه هو نتاج انقسام المجتمع الى بدو وحضر، بل ثمرة احتكاك المجتمع كله بالحضارة الغربية “إذن المجتمع الخلدوني يقف في المركز ليس وراءه سوى التوحش السابق للعمران وليس أمامه سوى صورته 
الذاتية.
أما المجتمع الجديد الذي يريد الوردي انتاجه خلدونيا فيقف حائرا بين حضارته الذاتية، التقليدية التي تتمزق وحضارة الآخر، الحديثة التي تخترق الأسوار.
يلج الوردي عبر منهجية يسميها فالح عبد الجبار نسبية وضعية الى استقراء المكونات السيسيولوجية للمجتمع العراقي من حفر تاريخي يشمل العهد العثماني في العراق كله، فالعمليات التاريخية كما يبينها تشكل الذات الاجتماعية نظامها القيمي وتصورها لذاتها ونظمها الثقافية وتنظيماتها الاجتماعية (محلات، أصناف، طرق صوفية، قبائل، ملائية، افندية...
الخ).
لا تمتد الى ما لا نهاية في الزمان وان الذاكرة الجمعية في هذا العهد لا تمتد الى ابعد من بضعة 
قرون... 
يحدد الوردي سمتين اساسيتين في العراق، سيطرة المد البدوي والصراع العثماني/الصفوي، وما خبره حسب تعبيره من (نزاع طائفي شديد بين السنة والشيعة) يؤكد الوردي من دون وسائل قياس واضحة، ان المد البدوي في العهد العثماني وهو الاخير، كان “أشد وطأة من جميع العهود السابقة ويعزو ذلك الى تعاقب الفتوحات” واضطر اهل المدن من جراء ذلك الى الالتجاء الى العصبية القبلية والقيم البدوية من أجل المحافظة على أرواحهم وأموالهم مثلما اضطرت العشائر الصغيرة الى التكتل أو الانضمام الى اتحادات قبلية
كبيرة.
ويعبر الدكتور فالح عبد الجبار عن هذه الرؤية (ان نمو البداوة، او هيمنة القيم البدوية تتناسب طرديا مع ضعف الدولة المركزية وضعف الحواضر) م س، ص19، وبتطبيق بسيط لهذه الرؤية نراها متحققة وبشكل كبير في العراق اليوم في مدنه الرئيسة كالبصرة وبغداد، إذ إنَّ للعشيرة اليوم الدور الاكبر للاسف الشديد مقابل القانون وسيادته والعشيرة اليوم تقوم بدور سلبي مقابل عجز القانون، بالتالي نرى الفوضى على جميع المستويات، والسبب هيمنة العشيرة والقيم البدوية بدلا من المدنية والتناسب طردي بين هيمنة القيم البدوية وضعف الدولة المركزية.
ويشرح الدكتور فالح عبد الجبار حدود معالجة الوردي للمجتمع العراقي في العهد العثماني، إذ يعتبر عبد الجبار ان علي الوردي لا يضع اية مفاضلة بين اشكال الالتحام البدوي والحضري ولا يرى في الحواضر اداة هدم للعصبية البدوية، بل يرى امكان نقل هذه العصبية البدوية الى الحواضر وجعلها عوامل تماسك للجماعات 
الحضرية.
ويثير سؤالاً: كيف يمايز الوردي أشكال التلاحم؟
إذ هنالك نوعان: 1- بدوي قائم على العصبية القبلية (الالتحام القرابي) 
2 - حضري ويتجلى في ثلاثة مستويات:
المحلة
العصبية البلدية 
المستوى الطائفي
إنَّ العصبية القبلية واقع طبيعي لدى الوردي، اما الحضرية فتتشكل بفعل العدوان الخارجي، خارج المحلة/ خارج البلدة/ خارج الطائفة. إلا أن العصبية الحضرية باتت اليوم ليس كما يفسرها الوردي، بل إنها عصبية تقوم وفق عوامل ومستويات بنيويَّة تقوم عليها ويتمأسس وفقها نمط عنيف يقود الى الاستبداد والقهر والظلم حتى. 
وتفسير الدكتور الوردي للعصبيات الحضرية تفسير ضيق جداً كما يسمه الدكتور فالح عبد الجبار، فما باتت العصبية الحضرية تتأتى من العدوان الخارجي كما يشير الوردي فحسب، بل إنَّ الجماعات الحضرية “بمثابة تنظيمات ذات وظائف اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية علاوة على وظيفتها
العسكرية.